مقدمة التحقيق
صفحة 1 من اصل 1
مقدمة التحقيق
مقدمة التحقيق
بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين
اللهم أنا نضرع إليك، ونهرول نحوك، ونجاهد نفوسنا في خدمتك وطاعتك، ونركب الصراط القويم الذي رسمته لنا إلى مرضاتك، فقونا بقوتك، وأعزنا بعزتك، واحفظنا بقدرتك، وألهمنا رشدك وتوفيقك، وبلغنا الدرجة العليا، وارحمنا برحمتك التي وسعت بها كل شيء علما.
وامنحنا اللهم برك وجودك، وإحسانك وإنعامك، واجعلنا من القاصدين إليك، ومن المتوكلين عليك، ومن الداعين بدعوتك والسالكين صراطك المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين.
اللهم لك الحمد حمدا يوافي نعمك، ويليق بكمالك، ونسألك اللهم أن تصلي وتسلم على خير أحبابك، وخاصة أنبيائك، عبدك ونبيك، وخيرتك من خلقك ورسولك، سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم الذي أرسلته بالحق بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا.
فكان صلوات الله عليه، للعالمين رحمة، وبالمؤمنين رؤوفا، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين آمنوا به وعزروه، ونصره واتبعوا النور الذي أنزل معه، فسلكوا طريقه، وكرعوا من بحر شريعته وحقيقته، حتى صاروا بصفائهم وخوفهم من مولاهم في أمن وسلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين.
فـ (الحمد لله الذي خلع على أوليائه خلع إنعامه فهم بذلك له حامدون، واختصهم بمحبته، وأقامهم في خدمته، فهم على صلاتهم يحافظون، ودعاهم إلى حضرته، وأظهر فيها مراتبهم، فالسابقون السابقون، أولئك المقربون، وفتح لهم أبواب حضرته، ورفع عن قلوبهم حجاب بعده فهم بين يديه متأدبون. ولاطفهم بوده، وأمنهم من إعراضه وصده، ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. ونور بصائرهم بفضله، وطهر سرائرهم، وأطلعهم على السر المصون. وصانهم عن الأغيار، وسترهم عن أعين الفجار، لأنهم عرائس ولا يرى العرائس المجرمون. فإذا مر عليهم ولي من أولياء الله ينسبونه إلى الزندقة والجنون وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون. فمنهم المنكر لكراماتهم، ومن المنقص لمقاماتهم، ومنهم الثالب لأعراضهم، ومنهم المعترضون يعترضون على أحوالهم، ويخوضون بجهلهم في مقالهم، وبهم يستهزئون، {الله يستهزىء بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون}. فسبحان من قرب أقواما، واصطفاهم لخدمته، فهم على بابه لا يبرحون. وسبحان من جعلهم نجوما في سماء الولاية، وجعل أهل الأرض بهم يهتدون. وسبحان من أباحهم حضرة قربه، والمنكرون عليهم عنها مبعدون. فالأولياء في جنة القرب متنعمون، والمنكرون في نار الطرد والبعد معذبون، لا يسئل عما يفعل وهم يسألون.
وأشهد أن لا اله إلا الله، وحده لا شريك له، شهادة شهد بها المؤمنون. وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا صلى الله عليه وسلم، عبده ورسوله النور المخزون، والسر المصون. اللهم فصل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وصحبهم أجمعين.
وبعد: فيقول صلوات الله وسلامه عليه، فيما رواه البخاري ومسلم:
(ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب).
ويقول أيضا فيما رواه البخاري:
(الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول: لا اله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان).
ويقول الفقيه العالم ابن عابدين في حاشيته:
"إن علم الإخلاص والحب، والحسد، والرياء، فرض عين، ومثلها غيرها من آفات النفوس، كالكبر، والشح، والحقد، والغش، والغضب، والعداوة، والبغضاء، والطمع، والبخل، والبطر، والخيلاء، والخيانة، والمداهنة، والاستكبار عن الحق، والمكر، والمخادعة، والقسوة، وطول الأمل، ونحوها مما هو مبين في ربع المهلكات من الإحياء، قال فيه: ولا ينفك عنها بشر، فيلزمه أن يتعلم منها ما يرى نفسه محتاجا إليه". ويقول صاحب الهداية العلائية أيضا: "وقد تظاهرت نصوص الشرع والإجماع على تحريم الحسد واحتقار المسلمين، وإرادة المكروه بهم، والكبر، والعجب، والرياء والنفاق، وجملة الخبائث، من أعمال القلوب، بل السمع والبصر والفؤاد، كل ذلك: كان عنه مسئولا مما يدخل تحت الاختبار".
أما صاحب مراقي الفلاح فانه يقول:
"لا تنفع الطهارة الظاهرة إلا مع الطهارة الباطنة بالإخلاص والنزاهة عن الغل والغش والحقد والحسد وتطهير القلب عما سوى الله من الكونين، فيعبده لذاته لا لعلة، مفتقرا إليه وهو يتفضل بالمن لقضاء حوائجه المضطر بها عطفا عليه، فتكون عبدا فردا للمالك الأحد الفرد، لا يسترقك شيء من الأشياء سواه، ولا يستملك هواك عن خدمتك إياه".
هاهي نصوص وآثار، تبين بحق أن صلاح القلب للجسد، وفساد القلب فساد للجسد، وأن ذكر الله تعالى ـ يعني قوله لا اله إلا الله أعلا شعب الإيمان، وأن العجب، والحسد، والرياء، والكبر، والشح، والحقد، والغش، والغضب، والعداوة.. الخ من الخصال الممقوتة، والخبائث المحرمة، التي نهى الله عنها، وأمرنا باجتنابها، وجهاد النفس من أجلها، وتنقية القلب من أوضارها.
بيد أن الطهارة الظاهرة لا تنفع إلا مع الطهارة الباطنة، وأن الطهارة الباطنة لا تكون إلا بالإخلاص والنزاهة عن الغل والغش، والحقد والحسد، وتطهير القلب عما سوى الله تعالى. ذلك: أن الإجماع، ونصوص الشرع الحكيم، تظاهرت على تحريم الحسد، واحتقار المسلمين... الخ.
ولما كان علم التصوف هو العلم الذي اختص بمعالجة هذه الأمراض القلبية، وتزكية النفس والتخلص منها. لما كان علم التصوف كذلك، بل لما كان علم التصوف هو الذي اهتم بهذا الجانب القلبي، فضلا عما يقابله من العبادات البدنية والمالية الأخرى، أثرنا أن يكون عملنا الذي نبتغي به وجه الحق سبحانه، إبراز أحد كنز علم من أعلام التصوف الذي يعالج ذلك كله.
هذا الكنز الذي جمع بين علمي الشريعة والحقيقة، والذي يعد بحق: دليلا واضحا للحائرين، ومنهجا قويما للسالكين، ودربا واسعا يسير فيه العارفون بالله رب العالمين هو كتاب: "التنوير في إسقاط التدبير" الذي يقول الشيخ ابن عباد في وصفه، وفي وصف الحكم العطائية: "... وهما أخوان من أب واحد، وأم واحدة"، والذي قال عنه ابن عجيبة حينما أراد أن يتحدث عن ابن عطاء الله، وعدم تدبيره: (... وقد ألف الشيخ رضي الله عنه فيه كتابا سماه: "التنوير في إسقاط التدبير" أحسن فيه وأجاد.
وكتاب التنوير الذي بين أيدينا، انفرد بهذا الإعجاب حتى افتتن به الكثير من رجال القلوب والبصائر، وأسلموا قيادهم لله سبحانه، بسبب ما كشف لهم فيه من غوامض سر عدم تدبيرهم، وسقوط اختيارهم، وذلك لما اشتمل عليه من فوائد مفيدة، في التوجيه والإرشاد إلى التسليم، وعدم منازعة المقادير، والتزام الخلق بإسقاط التدبير مع الخالق.
من هذه الفوائد المفيدة التي أوضحت مفهوم التدبير الذي قصد إليه الكتاب، والذي نؤيده عن إقناع: "اعلم أن الأشياء إنما تذم وتمدح بما تؤدي إليه، فالتدبير المذموم: ما شغلك عن الله، وعطلك عن القيام بخدمة الله، وصدك عن معاملة الله. والتدبير المحمود: هو الذي يؤديك إلى القرب من الله، ويوصلك إلى مرضاته."
ولم يقف ابن عطاء الله عند هذا الحد، بل انه استفاض في وضوح: التباين بين التوكل والتواكل، فعاب على التواكل وحذر منه، ورغب في العمل وحث عليه، انظر إليه وهو يشرح قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا الدنيا)، يقول: "أي التي توصلكم إلى طاعة الله، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم (فنعمت مطية الدنيا)".
فمدحها من حيث كونها مطية، لا من حيث أنها دار اغترار. وإذ قد علمت هذا فقد فهمت إن إسقاط التدبير ليس هو الخروج عن الأسباب حتى يعود الإنسان ضيعة فيكون كلاً على الناس، فيجهل حكمة الله في إثبات الأسباب وارتباط الوسائط، وقد جاء عن عيسى عليه السلام، أنه مر بمتعبد فقال له: من أين تأكل؟
فقال أخي يطعمني. فقال: أخوك أعبد منك.
أي أخوك وإن كان في سوقه، أعبد منك، لأنه هو الذي أعانك على الطاعة وفرغك لها.
وكيف يمكن أن ينكر الدخول في الأسباب بعد أن جاء قوله تعالى:
{وأحل الله البيع وحرم الربا}.
وقوله: {واشهدوا إذا تبايعتم}
وقوله عليه الصلاة والسلام:
(أحل ما أكل المرء من كسب يمينه وإن داود نبي الله كان يأكل من كسب يمينه).
وقوله عليه الصلاة والسلام:
(أفضل الكسب عمل الصانع بيده إذا نصح).
وقال صلى الله عليه وسلم:
(التاجر الأمين الصدوق المسلم مع الشهداء يوم القيامة).
فكيف يمكن أحد بعد هذا أن يذم الأسباب؟
لكن المذموم منها ما شغلك عن الله وصدك عن معاملته.
هذا وقد اتسع حرص صاحب التنوير على الأخذ بالأسباب والحث على العمل فقال: (إن في الأسباب صيانة للوجوه عن الابتذال بالسؤال وحفظا لبهجة الإيمان أن تزول بالطلب من الخلق، فما يعطيك الله من الأسباب فلا منة فيه لمخلوق عليك، إذ لا يمن عليك أحد إن اشترى منك أو استأجرك على عمل شيء، فانه في حظ نفسه سعى، ونفع نفسه قصد، فالسبب أخذ منه بغير منة).
وقبل أن أنهي القول أقول:
إن معنى التدبير الذي عناه صاحب التنوير هو تدبير الدنيا للدنيا، ومعنى ذلك: أن يدبر الإنسان في أسباب جمعها افتخارا بها واستكثارا، وكلما ازداد فيها شيئا ازداد غفلة واغترارا.
أما تدبير الدنيا للآخرة: كأن يدبر الإنسان المتاجر والمكاسب والغراسات، ليأكل منها حلالا ولينعم بها على ذوي الفاقة أفضالا وليصون بها وجهه عن الناس إجمالا فذلك هو التدبير المحمود الذي يحبه الله ورسوله، وحث عليه ابن عطاء الله في كتابه الذي نحن بصدده.
ومهما يكن من شيء، فحسب ما جاء من كتاب التنوير في إسقاط التدبير تأييدا قول الرسول صلوات الله وسلامه عليه:
(إن الله جعل الروح والراحة في الرضا واليقين).
وقول أحمد بن مسروق:
"من ترك التدبير فهو في راحة".
وقول سيدي أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه:
"لا تختر من أمرك شيئا، واختر أن لا تختار، وفر من ذلك المختار ومن فرارك ومن كل شيء، إلى الله تعالى، وربك يخلق ما يشاء ويختار".
وقول سهل بن عبد الله:
"ذروا التدبير والاختيار فإنهما يكدران على الناس عيشهم".
أما الشيخ أبو محمد عبد العزيز المهدوي رضي الله عنه، فله في هذا المعنى كلام نفيس أيضا يقول فيه:
"من لم يكن في دعائه تاركا لاختياره، راضيا باختيار الحق تعالى له، فهو مستدرج وهو ممن قيل فيهاقضوا حاجته فإني أكره أن أسمع صوته)". فإن كان مع اختيار الله تعالى، لا مع اختياره لنفسه كان مجابا وإن لم يعط، والأعمال بخواتيهما.
ها هو كتاب (التنوير في إسقاط التدبير) الذي اخترنا إبرازه في صورة واضحة، لما له من أهمية يعجز الوصف عن توضيحها، ذلك لما احتوى عليه من تنوير الأذهان، وتهذيب النفوس، وتوطين القلوب على الإذعان لله، والتسليم لأحكامه، وإسقاط التدبير في أي شيء معه سبحانه، وعدم منازعة مقاديره تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما}.
أما العلم العامل، الولي الزاهد العارف، القطب الشهير الواصل، الذي عرف ربه فهرول إليه، ورغب الحق سبحانه وتعالى، فأعرض عن كل شيء دونه انه العلم التقي الصافي، الذي عرف مولاه فجد وشد المئزر في خدمته سبحانه، لا لشيء سوى مشاهدته، حتى فني من أجله في ذاته لا عن ذاته، وشاهد بعين البصيرة جلاله سبحانه. وذلك العلم الوضاء، والقبس المضيء في سماء الولاية، هو:
الشيخ الإمام تاج الدين، وترجمان العارفين، أبو الفضل احمد بن محمد بن عبد الكريم، بن عبد الرحمن، بن عبد الله بن احمد بن عيسى بن الحسين، بن عطاء الله، الجذامي نسبا، المالكي مذهبا، الإسكندري دارا، القاهري مزارا، الصوفي حقيقة الشاذلي طريقة. أعجوبة زمانه، ونخبة عصره وأوانه، المتوفى في جمادى الآخرة سنة تسع وسبعمائة.
مكانته العلمية:
أما مكانة مؤلف "التنوير في إسقاط التدبير" العلمية، فإن صاحب الديباج المذهب يقول: "كان جامعا لأنواع العلوم من تفسير، وحديث، وفقه، ونحو وأصول، وغير ذلك. كان رحمه الله متكلما على طريق أهل التصوف، واعظا انتفع به خلق كثير، وسلكوا طريقه".
ومما يؤيد مكانة ابن عطاء الله السكندري، العلمية على نحو ما ذكر صاحب الديباج، أن شيخه أبا العباس المرسي رضي الله عنهما، شهد له بالتقديم، كما ذكر في كتاب "لطائف المنن" قائلا:
قال لي الشيخ: "الزم فو الله لئن لزمت لتكونن مفتيا في المذهبين، يريد مذهب أهل الشريعة أهل العلم الظاهر، ومذهب أهل الحقيقة أهل العلم الباطن". وقال فيه أيضا: "والله لا يموت هذا الشاب حتى يكون داعيا يدعو إلى الله". وقال فيه كذلك: "والله ليكونن لك شأن عظيم، والله ليكونن لك شأن عظيم، قال: فكان بحمد الله ما لا أنكره".
وازدادت مكانة ابن عطاء الله العلمية، وقوي شأنه فيها، حتى ألف من الكتاب ما يعد قمة في التصوف ومرجعا لمن قصد الأخذ منه والاستدلال به. وله في هذا الفن مؤلفات مشهورة، حازت السبق في ميدان العلماء والتقدير الفائق من المحققين، والإعجاب الفذ من الأدباء.
مع التنوير في إسقاط التدبير:
حينما عقدنا العزم، وصممنا الإرادة على تحقيق هذا الكتاب النفيس، وإبرازه في صورة طيبة، ووضوح واضح لأصحاب الحال والقال خاصة، وللشغوفين بأعمال القلوب والجوارح عامة، حينما اعتزمنا ذلك. أخلصنا النية، ووجهنا القلب إلى العلي الأعلى، أن يهبنا التوفيق والسداد، وأن يمنحنا النجاح والرشاد، وأن يتم علينا نعمته الكبرى، ويبسط يده ليأخذ بأيدينا في إنجاز هذا العمل الجاد الذي لن يتحقق إلا لمن ذاق فعرف، وشاهد فوصل.
والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، فقد قمنا بالبحث والتنقيب في دور الكتب والمكتبات، نبحث عن الأصول المخطوطة، وننقب عن النسخ الدقيقة، وبعد جهد وزمن وصلنا، بفضل الله تعالى ـ إلى ما أحببنا أن نصبوا إليه، فوجدنا مخطوطات عدة: بدار الكتب بالقاهرة ومكتبة الأزهر، ومكتبة سيدي أحمد البدوي رضي الله عنه.
وبعد: فإننا نقدم هذا الكنز الثمين ونحن نضرع إلى الله العلي القدير، أن يجعله عملا خالصا ابتغاء وجهه سبحانه، وأن ينفع به، وأن يقدر له الخير والعمل به، وأن يجازي مؤلفه الجزاء المشكور عنده، إنه سميع مجيب، وهو حسبنا عليه توكلنا، وإليه أنبنا، واليه المصير.
بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين
اللهم أنا نضرع إليك، ونهرول نحوك، ونجاهد نفوسنا في خدمتك وطاعتك، ونركب الصراط القويم الذي رسمته لنا إلى مرضاتك، فقونا بقوتك، وأعزنا بعزتك، واحفظنا بقدرتك، وألهمنا رشدك وتوفيقك، وبلغنا الدرجة العليا، وارحمنا برحمتك التي وسعت بها كل شيء علما.
وامنحنا اللهم برك وجودك، وإحسانك وإنعامك، واجعلنا من القاصدين إليك، ومن المتوكلين عليك، ومن الداعين بدعوتك والسالكين صراطك المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين.
اللهم لك الحمد حمدا يوافي نعمك، ويليق بكمالك، ونسألك اللهم أن تصلي وتسلم على خير أحبابك، وخاصة أنبيائك، عبدك ونبيك، وخيرتك من خلقك ورسولك، سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم الذي أرسلته بالحق بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا.
فكان صلوات الله عليه، للعالمين رحمة، وبالمؤمنين رؤوفا، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين آمنوا به وعزروه، ونصره واتبعوا النور الذي أنزل معه، فسلكوا طريقه، وكرعوا من بحر شريعته وحقيقته، حتى صاروا بصفائهم وخوفهم من مولاهم في أمن وسلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين.
فـ (الحمد لله الذي خلع على أوليائه خلع إنعامه فهم بذلك له حامدون، واختصهم بمحبته، وأقامهم في خدمته، فهم على صلاتهم يحافظون، ودعاهم إلى حضرته، وأظهر فيها مراتبهم، فالسابقون السابقون، أولئك المقربون، وفتح لهم أبواب حضرته، ورفع عن قلوبهم حجاب بعده فهم بين يديه متأدبون. ولاطفهم بوده، وأمنهم من إعراضه وصده، ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. ونور بصائرهم بفضله، وطهر سرائرهم، وأطلعهم على السر المصون. وصانهم عن الأغيار، وسترهم عن أعين الفجار، لأنهم عرائس ولا يرى العرائس المجرمون. فإذا مر عليهم ولي من أولياء الله ينسبونه إلى الزندقة والجنون وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون. فمنهم المنكر لكراماتهم، ومن المنقص لمقاماتهم، ومنهم الثالب لأعراضهم، ومنهم المعترضون يعترضون على أحوالهم، ويخوضون بجهلهم في مقالهم، وبهم يستهزئون، {الله يستهزىء بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون}. فسبحان من قرب أقواما، واصطفاهم لخدمته، فهم على بابه لا يبرحون. وسبحان من جعلهم نجوما في سماء الولاية، وجعل أهل الأرض بهم يهتدون. وسبحان من أباحهم حضرة قربه، والمنكرون عليهم عنها مبعدون. فالأولياء في جنة القرب متنعمون، والمنكرون في نار الطرد والبعد معذبون، لا يسئل عما يفعل وهم يسألون.
وأشهد أن لا اله إلا الله، وحده لا شريك له، شهادة شهد بها المؤمنون. وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا صلى الله عليه وسلم، عبده ورسوله النور المخزون، والسر المصون. اللهم فصل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وصحبهم أجمعين.
وبعد: فيقول صلوات الله وسلامه عليه، فيما رواه البخاري ومسلم:
(ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب).
ويقول أيضا فيما رواه البخاري:
(الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول: لا اله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان).
ويقول الفقيه العالم ابن عابدين في حاشيته:
"إن علم الإخلاص والحب، والحسد، والرياء، فرض عين، ومثلها غيرها من آفات النفوس، كالكبر، والشح، والحقد، والغش، والغضب، والعداوة، والبغضاء، والطمع، والبخل، والبطر، والخيلاء، والخيانة، والمداهنة، والاستكبار عن الحق، والمكر، والمخادعة، والقسوة، وطول الأمل، ونحوها مما هو مبين في ربع المهلكات من الإحياء، قال فيه: ولا ينفك عنها بشر، فيلزمه أن يتعلم منها ما يرى نفسه محتاجا إليه". ويقول صاحب الهداية العلائية أيضا: "وقد تظاهرت نصوص الشرع والإجماع على تحريم الحسد واحتقار المسلمين، وإرادة المكروه بهم، والكبر، والعجب، والرياء والنفاق، وجملة الخبائث، من أعمال القلوب، بل السمع والبصر والفؤاد، كل ذلك: كان عنه مسئولا مما يدخل تحت الاختبار".
أما صاحب مراقي الفلاح فانه يقول:
"لا تنفع الطهارة الظاهرة إلا مع الطهارة الباطنة بالإخلاص والنزاهة عن الغل والغش والحقد والحسد وتطهير القلب عما سوى الله من الكونين، فيعبده لذاته لا لعلة، مفتقرا إليه وهو يتفضل بالمن لقضاء حوائجه المضطر بها عطفا عليه، فتكون عبدا فردا للمالك الأحد الفرد، لا يسترقك شيء من الأشياء سواه، ولا يستملك هواك عن خدمتك إياه".
هاهي نصوص وآثار، تبين بحق أن صلاح القلب للجسد، وفساد القلب فساد للجسد، وأن ذكر الله تعالى ـ يعني قوله لا اله إلا الله أعلا شعب الإيمان، وأن العجب، والحسد، والرياء، والكبر، والشح، والحقد، والغش، والغضب، والعداوة.. الخ من الخصال الممقوتة، والخبائث المحرمة، التي نهى الله عنها، وأمرنا باجتنابها، وجهاد النفس من أجلها، وتنقية القلب من أوضارها.
بيد أن الطهارة الظاهرة لا تنفع إلا مع الطهارة الباطنة، وأن الطهارة الباطنة لا تكون إلا بالإخلاص والنزاهة عن الغل والغش، والحقد والحسد، وتطهير القلب عما سوى الله تعالى. ذلك: أن الإجماع، ونصوص الشرع الحكيم، تظاهرت على تحريم الحسد، واحتقار المسلمين... الخ.
ولما كان علم التصوف هو العلم الذي اختص بمعالجة هذه الأمراض القلبية، وتزكية النفس والتخلص منها. لما كان علم التصوف كذلك، بل لما كان علم التصوف هو الذي اهتم بهذا الجانب القلبي، فضلا عما يقابله من العبادات البدنية والمالية الأخرى، أثرنا أن يكون عملنا الذي نبتغي به وجه الحق سبحانه، إبراز أحد كنز علم من أعلام التصوف الذي يعالج ذلك كله.
هذا الكنز الذي جمع بين علمي الشريعة والحقيقة، والذي يعد بحق: دليلا واضحا للحائرين، ومنهجا قويما للسالكين، ودربا واسعا يسير فيه العارفون بالله رب العالمين هو كتاب: "التنوير في إسقاط التدبير" الذي يقول الشيخ ابن عباد في وصفه، وفي وصف الحكم العطائية: "... وهما أخوان من أب واحد، وأم واحدة"، والذي قال عنه ابن عجيبة حينما أراد أن يتحدث عن ابن عطاء الله، وعدم تدبيره: (... وقد ألف الشيخ رضي الله عنه فيه كتابا سماه: "التنوير في إسقاط التدبير" أحسن فيه وأجاد.
وكتاب التنوير الذي بين أيدينا، انفرد بهذا الإعجاب حتى افتتن به الكثير من رجال القلوب والبصائر، وأسلموا قيادهم لله سبحانه، بسبب ما كشف لهم فيه من غوامض سر عدم تدبيرهم، وسقوط اختيارهم، وذلك لما اشتمل عليه من فوائد مفيدة، في التوجيه والإرشاد إلى التسليم، وعدم منازعة المقادير، والتزام الخلق بإسقاط التدبير مع الخالق.
من هذه الفوائد المفيدة التي أوضحت مفهوم التدبير الذي قصد إليه الكتاب، والذي نؤيده عن إقناع: "اعلم أن الأشياء إنما تذم وتمدح بما تؤدي إليه، فالتدبير المذموم: ما شغلك عن الله، وعطلك عن القيام بخدمة الله، وصدك عن معاملة الله. والتدبير المحمود: هو الذي يؤديك إلى القرب من الله، ويوصلك إلى مرضاته."
ولم يقف ابن عطاء الله عند هذا الحد، بل انه استفاض في وضوح: التباين بين التوكل والتواكل، فعاب على التواكل وحذر منه، ورغب في العمل وحث عليه، انظر إليه وهو يشرح قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا الدنيا)، يقول: "أي التي توصلكم إلى طاعة الله، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم (فنعمت مطية الدنيا)".
فمدحها من حيث كونها مطية، لا من حيث أنها دار اغترار. وإذ قد علمت هذا فقد فهمت إن إسقاط التدبير ليس هو الخروج عن الأسباب حتى يعود الإنسان ضيعة فيكون كلاً على الناس، فيجهل حكمة الله في إثبات الأسباب وارتباط الوسائط، وقد جاء عن عيسى عليه السلام، أنه مر بمتعبد فقال له: من أين تأكل؟
فقال أخي يطعمني. فقال: أخوك أعبد منك.
أي أخوك وإن كان في سوقه، أعبد منك، لأنه هو الذي أعانك على الطاعة وفرغك لها.
وكيف يمكن أن ينكر الدخول في الأسباب بعد أن جاء قوله تعالى:
{وأحل الله البيع وحرم الربا}.
وقوله: {واشهدوا إذا تبايعتم}
وقوله عليه الصلاة والسلام:
(أحل ما أكل المرء من كسب يمينه وإن داود نبي الله كان يأكل من كسب يمينه).
وقوله عليه الصلاة والسلام:
(أفضل الكسب عمل الصانع بيده إذا نصح).
وقال صلى الله عليه وسلم:
(التاجر الأمين الصدوق المسلم مع الشهداء يوم القيامة).
فكيف يمكن أحد بعد هذا أن يذم الأسباب؟
لكن المذموم منها ما شغلك عن الله وصدك عن معاملته.
هذا وقد اتسع حرص صاحب التنوير على الأخذ بالأسباب والحث على العمل فقال: (إن في الأسباب صيانة للوجوه عن الابتذال بالسؤال وحفظا لبهجة الإيمان أن تزول بالطلب من الخلق، فما يعطيك الله من الأسباب فلا منة فيه لمخلوق عليك، إذ لا يمن عليك أحد إن اشترى منك أو استأجرك على عمل شيء، فانه في حظ نفسه سعى، ونفع نفسه قصد، فالسبب أخذ منه بغير منة).
وقبل أن أنهي القول أقول:
إن معنى التدبير الذي عناه صاحب التنوير هو تدبير الدنيا للدنيا، ومعنى ذلك: أن يدبر الإنسان في أسباب جمعها افتخارا بها واستكثارا، وكلما ازداد فيها شيئا ازداد غفلة واغترارا.
أما تدبير الدنيا للآخرة: كأن يدبر الإنسان المتاجر والمكاسب والغراسات، ليأكل منها حلالا ولينعم بها على ذوي الفاقة أفضالا وليصون بها وجهه عن الناس إجمالا فذلك هو التدبير المحمود الذي يحبه الله ورسوله، وحث عليه ابن عطاء الله في كتابه الذي نحن بصدده.
ومهما يكن من شيء، فحسب ما جاء من كتاب التنوير في إسقاط التدبير تأييدا قول الرسول صلوات الله وسلامه عليه:
(إن الله جعل الروح والراحة في الرضا واليقين).
وقول أحمد بن مسروق:
"من ترك التدبير فهو في راحة".
وقول سيدي أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه:
"لا تختر من أمرك شيئا، واختر أن لا تختار، وفر من ذلك المختار ومن فرارك ومن كل شيء، إلى الله تعالى، وربك يخلق ما يشاء ويختار".
وقول سهل بن عبد الله:
"ذروا التدبير والاختيار فإنهما يكدران على الناس عيشهم".
أما الشيخ أبو محمد عبد العزيز المهدوي رضي الله عنه، فله في هذا المعنى كلام نفيس أيضا يقول فيه:
"من لم يكن في دعائه تاركا لاختياره، راضيا باختيار الحق تعالى له، فهو مستدرج وهو ممن قيل فيهاقضوا حاجته فإني أكره أن أسمع صوته)". فإن كان مع اختيار الله تعالى، لا مع اختياره لنفسه كان مجابا وإن لم يعط، والأعمال بخواتيهما.
ها هو كتاب (التنوير في إسقاط التدبير) الذي اخترنا إبرازه في صورة واضحة، لما له من أهمية يعجز الوصف عن توضيحها، ذلك لما احتوى عليه من تنوير الأذهان، وتهذيب النفوس، وتوطين القلوب على الإذعان لله، والتسليم لأحكامه، وإسقاط التدبير في أي شيء معه سبحانه، وعدم منازعة مقاديره تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما}.
أما العلم العامل، الولي الزاهد العارف، القطب الشهير الواصل، الذي عرف ربه فهرول إليه، ورغب الحق سبحانه وتعالى، فأعرض عن كل شيء دونه انه العلم التقي الصافي، الذي عرف مولاه فجد وشد المئزر في خدمته سبحانه، لا لشيء سوى مشاهدته، حتى فني من أجله في ذاته لا عن ذاته، وشاهد بعين البصيرة جلاله سبحانه. وذلك العلم الوضاء، والقبس المضيء في سماء الولاية، هو:
الشيخ الإمام تاج الدين، وترجمان العارفين، أبو الفضل احمد بن محمد بن عبد الكريم، بن عبد الرحمن، بن عبد الله بن احمد بن عيسى بن الحسين، بن عطاء الله، الجذامي نسبا، المالكي مذهبا، الإسكندري دارا، القاهري مزارا، الصوفي حقيقة الشاذلي طريقة. أعجوبة زمانه، ونخبة عصره وأوانه، المتوفى في جمادى الآخرة سنة تسع وسبعمائة.
مكانته العلمية:
أما مكانة مؤلف "التنوير في إسقاط التدبير" العلمية، فإن صاحب الديباج المذهب يقول: "كان جامعا لأنواع العلوم من تفسير، وحديث، وفقه، ونحو وأصول، وغير ذلك. كان رحمه الله متكلما على طريق أهل التصوف، واعظا انتفع به خلق كثير، وسلكوا طريقه".
ومما يؤيد مكانة ابن عطاء الله السكندري، العلمية على نحو ما ذكر صاحب الديباج، أن شيخه أبا العباس المرسي رضي الله عنهما، شهد له بالتقديم، كما ذكر في كتاب "لطائف المنن" قائلا:
قال لي الشيخ: "الزم فو الله لئن لزمت لتكونن مفتيا في المذهبين، يريد مذهب أهل الشريعة أهل العلم الظاهر، ومذهب أهل الحقيقة أهل العلم الباطن". وقال فيه أيضا: "والله لا يموت هذا الشاب حتى يكون داعيا يدعو إلى الله". وقال فيه كذلك: "والله ليكونن لك شأن عظيم، والله ليكونن لك شأن عظيم، قال: فكان بحمد الله ما لا أنكره".
وازدادت مكانة ابن عطاء الله العلمية، وقوي شأنه فيها، حتى ألف من الكتاب ما يعد قمة في التصوف ومرجعا لمن قصد الأخذ منه والاستدلال به. وله في هذا الفن مؤلفات مشهورة، حازت السبق في ميدان العلماء والتقدير الفائق من المحققين، والإعجاب الفذ من الأدباء.
مع التنوير في إسقاط التدبير:
حينما عقدنا العزم، وصممنا الإرادة على تحقيق هذا الكتاب النفيس، وإبرازه في صورة طيبة، ووضوح واضح لأصحاب الحال والقال خاصة، وللشغوفين بأعمال القلوب والجوارح عامة، حينما اعتزمنا ذلك. أخلصنا النية، ووجهنا القلب إلى العلي الأعلى، أن يهبنا التوفيق والسداد، وأن يمنحنا النجاح والرشاد، وأن يتم علينا نعمته الكبرى، ويبسط يده ليأخذ بأيدينا في إنجاز هذا العمل الجاد الذي لن يتحقق إلا لمن ذاق فعرف، وشاهد فوصل.
والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، فقد قمنا بالبحث والتنقيب في دور الكتب والمكتبات، نبحث عن الأصول المخطوطة، وننقب عن النسخ الدقيقة، وبعد جهد وزمن وصلنا، بفضل الله تعالى ـ إلى ما أحببنا أن نصبوا إليه، فوجدنا مخطوطات عدة: بدار الكتب بالقاهرة ومكتبة الأزهر، ومكتبة سيدي أحمد البدوي رضي الله عنه.
وبعد: فإننا نقدم هذا الكنز الثمين ونحن نضرع إلى الله العلي القدير، أن يجعله عملا خالصا ابتغاء وجهه سبحانه، وأن ينفع به، وأن يقدر له الخير والعمل به، وأن يجازي مؤلفه الجزاء المشكور عنده، إنه سميع مجيب، وهو حسبنا عليه توكلنا، وإليه أنبنا، واليه المصير.
_________________
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى