أوجه الإجمال في الطلب
صفحة 1 من اصل 1
أوجه الإجمال في الطلب
أوجه الإجمال في الطلب
فاعلم أن الإجمال في الطلب يحتمل وجوها كثيرة، ونحن نذكر منها، ما فتح الله به بفضله.
فاعلم رحمك الله: أن الطالب للرزق على قسمين:
عبد يطلبه منهمكا عليه، ومتوجها بكل همته إليه، وذلك مما يصرف وجهته عن الله لن الهمة إذا توجهت لشيء انصرفت عما عداه، قال الشيخ أبو مدين رحمه الله: (ليس للقلب إلا وجهة واحدة، أن وجهته إليها تصرف عن غيرها وقد قال الحق سبحانه وتعالى: {ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه}. أي ما جعل له من وجهتين في وقت واحد وذلك لضعف البشرية عن التوجه إلى وجهتين.
فما توجه إنسان إلى وجهتين إلا ويقع الخلل في إحدى الوجهتين والقيام بالأوجه كليا في الوقت الواحد من غير أن يقع في شيء منها خلل، إنما ذلك من شأن الإلهية، ولذلك قال سبحانه وتعالى: {وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله}.
فأفاد بذلك انه متوجه لأهل السماء، ولأهل الأرض، لا يشغله توجهه لأهل الأرض، ولا توجهه لأهل الأرض عن توجهه لأهل السماء، ولا شيء عن شيء. فلذلك كرر سبحانه وتعالى ذكر الإلهية في الآية الكريمة، ولو لم يكررها لم يفد ذلك من هذا اللفظ، بل مما يوجبه ما هو الحق عليه سبحانه. فتبين لك من هذا: أن من طلب الرزق مكبا عليه، مشتغلا عن الله تعالى به، فليس مجملا في الطلب، ومن طلبه على غير ذلك فهو مجمل.
وجه ثان وهو: أن الأجمال في الطلب أن يطلب من الله تعالى، ولا يعين قدرا، ولا سببا، ولا وقتا، فيرزقه الحق ما شاء، كيف شاء في أي وقت شاء، وذلك من حسن الأدب في الطلب. ومن طلب وعين قدرا، أو سببا أو وقتا، فقد تحكم على ربه، وأحاطت الغفلة بقلبه. ويحكى عن بعضهم، انه كان يقول:
(وددت لو أن تركت الأسباب وأعطيت كل يوم رغيفين). يريد بذلك أن يستريح من تعب الأسباب، قال: فسجنت ثم كنت في السجن يؤتى لي كل يوم برغيفين، فطال ذلك علي حتى ضجرت، ففكرت يوما في أمري. فقيل لي: (انك طلبت منا كل يوم رغيفين ولم تطب منا العافية، فأعطيناك ما طلبت). فاستغفرت الله من ذلك، ورجعت إلى الله فإذا بباب السجن يقرع، فتخلصت وخرجت.
فتأدب أيها المؤمن، ولا تطلب أن يخرجك من أمر، ويدخلك فيما سواه، إذا كان ما أنت فيه مما يوافق لسان العلم، فان ذلك من سوء الأدب مع الله.فاصبر لئلا تطلب الخروج بنفسك، فتعطى ما طلبت وتمنع الراحة فيه، فرب تارك سببا، وداخل في غيره ليجد الثروة والراحة، فأتعب وقوبل بوجود التعسر عقوبة لوجود الاختيار.
وفي كلام كتبناه في هذا الكتاب: "طلبك للتجرد مع إقامة الله إياك في الأسباب من الشهوة الخفية وطلبك الأسباب مع إقامة الله إياك في التجريد انحطاط عن الهمة العلية." فافهم رحمك الله: أن من شأن هذا العدو أن يأتيك فيما أنت فيه مما أقامك الله فيه، فيحقره لتطلب غير ما أقامك الله فيه، فيتشوش قلبك ويتكدر وقتك. وذلك انه يأتي للمتسببين فيقول: لو تركتم الأسباب وتجردتم لأشرقت لكم الأنوار، ولصفت منكم القلوب والأسرار، قائلا: وكذلك صنع فلا وفلان، ويكون هذا العبد ليس مقصودا بالتجرد، ولا طاقة له به، وإنما صلاحه في الأسباب فيتركها فيتزلزل إيمانه، ويذهب إيقافه، ولا يتوجه إلى الطلب من الخلق، والى الاهتمام بأمر الرزق، فيرمى في بحر القطيعة، وذلك قصد العدو فيه. لأنه إنما يأتيك في صورة ناصح، إذ لو أتاك في غيرها لم تقبل منه وكما أتى آدم وحواء عليهما السلام في صورة ناصح: {وقال: ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين). كما تقدمك بيانه. {وقاسمهما أني لكما من الناصحين}. كما تقدم بيانه.
وكذلك يأتي للمتجردين ويقول لهم: إلى متى تتركون الأسباب؟ ألم تعلموا أن ترك الأسباب تتطلع مع القلوب إلى ما في أيدي الناس، ويفتح باب الطمع، ولا يمكن الإسعاف ولا الإيثار، ولا القيام بالحقوق؟ وعوض ما تكون منتظرا ما يفتح به عليك من الخلق، فلو دخلت في الأسباب بقي غيرك منتظرا ما يفتح عليه منك. إلى غير ذلك، ويكون هذا العبد قد طاب وقته وانبسط نوره ووجد الراحة بالانقطاع عن الخلق، فلا يزال به حتى يعود إلى الأسباب فيصيبه كدرتها، وتغشاه ظلمتها، ويعود الدائم في سببه أحسن حالا منه. لأن ذلك ما سلك طريقا ثم رجع عنها، ولا قصد قصدا ثم انعطف عنه، فافهم واعتصم بالله منه: {ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط مستقيم}. وإنما قصد الشيطان بذلك أن يمنع العباد من الرضا عن الله فما لهم فيه، وأن يخرجهم عما اختاره الله تعالى لهم إلى مختارهم لأنفسهم. وما أدخلك الله تعالى فيه، تولى إعانتك عليه، وما دخلت فيه بنفسك وكلك إليه.
{وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا}.
فالمدخل الصدق: أن تدخل به لا بنفسك، والمخرج الصدق أيضا كذلك، فافهم.
والذي يقتضيه الحق منك أن تمكن حيث أقامك حتى يكون الحق تعالى هو الذي يتولى إخراجك، كما تولى إدخالك وليس الشأن أن تترك السبب، إنما الشأن أن يتركك السبب، قال بعضهم: "تركت السبب كذا وكذا مرة فعدت إليه، ثم تركني السبب فلم أعد إليه." ودخلت على الشيخ أبي العباس المرسي، وفي نفسي العزم على التجريد قائلا في نفسي: إن الوصول إلى الله تعالى على هذه الحالة بعيد من الاشتغال بالعلم الظاهر، ووجود المخالطة للناس. فقال لي من غير أن اسأله: "صحبني إنسان مشتغل بالعلوم الظاهرة وهو متصدر فيها فذاق من هذه الطريق شيئا فقال: يا سيدي، اخرج عما أنا فيه وأتفرغ بصحبتك؟ فقلت له: ليس الشأن ذا، ولكن أمكث فيما أنت فيه، وما قسم الله لك على أيدينا فهو إليك واصل." ثم قال الشيخ ونظر إلي وقال: "هكذا شأن الصديقين لا يخرجون عن شيء حتى يكون الحق تعالى هو الذي يتولى إخراجهم". فخرجت من عنده وقد غسل الله تعالى من قلبي تلك الخواطر ووجدت الراحة بالتسليم إلى الله، ولكنهم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم).
وجه ثالث: وقد يكون الأجمال في الطلب، وأن تطلب من الله تعالى ويكون قصدك مناجاته لا عين ما طلبت، وإنما يكون الطلب توسلا لها ولذلك قال الشيخ أبو الحسن رحمه الله: (لا يكن همك في دعائك الظفر بقضاء حاجتك فتكون محجوبا عن ربك، ولتكن همتك مناجاة مولاك). وقيل: إن موسى عليه السلام كان يطوف في بني إسرائيل ويقول: (من يحملني رسالة إلى ربي). وذلك: لتطول مناجاته مع الله تعالى.
وجه رابع: وقد يكون لإجمال في الطلب، أن تطلب وأنت تشهد أنك مطلوب بما قسم لك، وأنك مقصود به وليس طلبك موصلا إليه، فيكون طلبك وأنت غريق في بحر العجز مغموس في وجود الفاقة.
وقد يكون الأجمال في الطلب أن لا تطلب بحظ البشرية ولكن لإظهار العبودية كما حكي أن سمنون المحب رحمه الله كان يقول:
وليس لي في سواك حظ *** فكيفما شئت فاختبرني
فابتلي بعلة الأسر، وهو احتباس البول فصبر وتجلد، فطاوله ذلك فصبر وتجلد إلى أن جاءه بعض أصحابه، فقال: يا أستاذي سمعتك البارحة وأنت تطلب من الله الشفاء والعافية ولم يكن هو طلب. ثم جاء ثان، ثم جاء ثالث، ثم جاء رابع. فعلم أن مراد الحق منه إظهار الحاجة والفاقة، فسأل الله الشفاء. ثم صار يدور على صبيان المكاتب ويقول: (أدعو لعمكم الكذاب).
وجه خامس: وقد يكون الأجمال في الطلب أن تطلب من الله ما يكفيك، ولا تطلب منه ما يطغيك، غير متطلع إلى ما سوى الكفاية بالشره، ولا منبسطا إليه بالرغبة، وقد علمنا ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: (اللهم اجعل قوت آل محمد كفانا). والطالب لما زاد على الكفاية ملوم وطالب الكفاية غير ملوم بذلك جاء في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: (ولا تلام على كفاف). ويكفيك في ذلك ما قال رسول الله لثعلبة بن حاطب، لما قال: يا رسول الله، ادع الله أن يرزقني مالا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ثعلبة بن حاطب، قليل تؤدي شكره، خير من كثير لا تطيقه. فكرر عليه ثعلبة فأعاد عليه الصلاة والسلام ما قال أولا:، قليل تؤدي شكره، خير من كثير لا تطيقه.
فما زال إلى أن دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اختار لنفسه، فكان عاقبة اختياره لنفسه، ومخالفته لمختار رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أكثر ماله حتى تعطل عن بعض الصلوات أن يصليها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا صلاة الجمعة، ثم كثرت أغنامه ومواشيه، حتى لم يمكنه صلاة الجمعة أيضا، ثم مصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ منه الزكاة فقال:
ما أرها إلا جزية، أو أخت الجزية وامتنع من دفع الزكاة، وقصته مشهورة، فأنزل الله تعالى فيه: {ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله، لنصّدّقن ولنكوننّ من الصالحين، فلما آتاهم من فضله، بخلوا به وتولوا وهم معرضون، فأعقبهم نفاقا في قلوهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون}.
وجه سادس: وقد يكون الأجمال في الطلب.. أن يطلب العبد حظوظ دنياه قال تعالى: {فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وماله في الآخرة من خلاق، ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار}.
وجه سابع: وقد يكون الأجمال في الطلب أن يكون طلبك غير شاك في القسمة ولا تاركا حفظ الحرمة.
وجه ثامن: وقد يكون الأجمال في الطلب أن تطلب ولا تستعجل الإجابة، وغير الأجمال أن تستعجلها وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك بقوله: (يستجاب لأحدكم ما لم يقل دعوت فلم يستجب لي). وقد دعا موسى وهارون عليهما السلام على فرعون، فيما حكاه الله تعالى عنهما بقوله: {ربهما اطمس على أموالهم، واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم}. فقال سبحانه وتعالى: {قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون}. وكان بين قوله تعالى لهما: {قد أجيبت دعوتكما} وإهلاك فرعون أربعون عاما. قال الشيخ أبو الحسن رحمه الله، في قوله سبحانه وتعالى: {فاستقيما} أي على عدم استعجال ما طلبتما. {ولا تتبعان سبيل الذين لا يعملون}، قال: هم المستعجلون لإجابة.
وجه تاسع: وقد يكون لإجمال في الطلب أن يطلب وهو شاكر لله تعالى إن أعطى، وشاهد حسن اختيار ربه إذا منع، فرب طالب لا يشكر أن أعطى ولا يشهد حسن اختيار ربه في المنع، بل طالب من الله حازم أن المصلحة له، أن يعطى. ومن أين لهذا العبد الجاهل أن يحكم على علم الله، وان يعلم ما فيه غيب الله؟ وكفى بالعبد جهلا أن يتخير على مولاه، بل إذا سألته فسله مفوضا إليه غير مدبر معه ولا مختار عليه: {وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان الخيرة}. هذا فيما أيهم أمره والبيان في ذلك: أن المدعو به على ثلاثة أقسام: ما هو خير قطعا فاطلب من الله السلامة منه من غير استثناء، كالكفر والمعصية. وما هو مبهم الأمر، كالغنى، والعز، والرفعة، فاطلب ذلك من الله تعالى قائلا: (إن علمت ذلك خير لي). كذلك سمعته من الشيخ رحمه الله.
وجه عاشر: وقد يكون الإجمال في الطلب أن يكونوا في الطلب على سابق قسمته معتدين، ولا يكونوا إلى طلبهم مستندين.
وقد يكون الإجمال في الطلب: أن يطلبوا وهم لعدم الاستحقاق شاهدون، فأولئك حري بهم أن يستوجبوا منة رب العالمين، قال الشيخ أبو الحسن رحمه الله: (ما طلبت شيئا إلا وقدمت إساءتي أمامي). يريد رحمة الله حتى لا يطلب من الله بوصف يستحق العطاء،، بل لا يكون طلبه وجود فضله إلا بفضله.
فهذه عشرة أوجه في الإجمال في الطلب، وليس القصد بها الحصر، إذ الأمر أوسع من ذلك، ولكن بحسب ما ناول الغيب، وأنعم به المولى سبحانه وتعالى، وهو كلام صاحب الأنوار المحيطة. فما يأخذ الآخذ منه إلا على حسب نوره، ولا يأخذ من جواهر بحره إلا على قدر قوة غوصه، وكل يفهم على حسب المقام الذي أقيم فيه: {تسقى بماء واحد، ونفضل بعضها عن بعض في الأكل}.
وما لم يأخذوه أكثر مما اخذوا، واسمع قوله عليه الصلاة والسلام: (وأوتيت جوامع الكلم، واختصر لي الكلام اختصارا). فلو عبر العلماء بالله أبد الآباد، عن أسرار الكلمة الواحدة من كلامه، لم يحيطوا بها علما، ولم يقدروا فهما، حتى قال بعضهم: (عملت بهذا الحديث سبعين عاما وما فرغت منه، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه). وصدق رضي الله عنه، ولو مكث عمر الدنيا أجمع وأبد الآباد لم يفرغ من حقوق هذا الحديث، وما أودع فيه من غرائب العلوم وأسرار الفهوم.
فاعلم أن الإجمال في الطلب يحتمل وجوها كثيرة، ونحن نذكر منها، ما فتح الله به بفضله.
فاعلم رحمك الله: أن الطالب للرزق على قسمين:
عبد يطلبه منهمكا عليه، ومتوجها بكل همته إليه، وذلك مما يصرف وجهته عن الله لن الهمة إذا توجهت لشيء انصرفت عما عداه، قال الشيخ أبو مدين رحمه الله: (ليس للقلب إلا وجهة واحدة، أن وجهته إليها تصرف عن غيرها وقد قال الحق سبحانه وتعالى: {ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه}. أي ما جعل له من وجهتين في وقت واحد وذلك لضعف البشرية عن التوجه إلى وجهتين.
فما توجه إنسان إلى وجهتين إلا ويقع الخلل في إحدى الوجهتين والقيام بالأوجه كليا في الوقت الواحد من غير أن يقع في شيء منها خلل، إنما ذلك من شأن الإلهية، ولذلك قال سبحانه وتعالى: {وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله}.
فأفاد بذلك انه متوجه لأهل السماء، ولأهل الأرض، لا يشغله توجهه لأهل الأرض، ولا توجهه لأهل الأرض عن توجهه لأهل السماء، ولا شيء عن شيء. فلذلك كرر سبحانه وتعالى ذكر الإلهية في الآية الكريمة، ولو لم يكررها لم يفد ذلك من هذا اللفظ، بل مما يوجبه ما هو الحق عليه سبحانه. فتبين لك من هذا: أن من طلب الرزق مكبا عليه، مشتغلا عن الله تعالى به، فليس مجملا في الطلب، ومن طلبه على غير ذلك فهو مجمل.
وجه ثان وهو: أن الأجمال في الطلب أن يطلب من الله تعالى، ولا يعين قدرا، ولا سببا، ولا وقتا، فيرزقه الحق ما شاء، كيف شاء في أي وقت شاء، وذلك من حسن الأدب في الطلب. ومن طلب وعين قدرا، أو سببا أو وقتا، فقد تحكم على ربه، وأحاطت الغفلة بقلبه. ويحكى عن بعضهم، انه كان يقول:
(وددت لو أن تركت الأسباب وأعطيت كل يوم رغيفين). يريد بذلك أن يستريح من تعب الأسباب، قال: فسجنت ثم كنت في السجن يؤتى لي كل يوم برغيفين، فطال ذلك علي حتى ضجرت، ففكرت يوما في أمري. فقيل لي: (انك طلبت منا كل يوم رغيفين ولم تطب منا العافية، فأعطيناك ما طلبت). فاستغفرت الله من ذلك، ورجعت إلى الله فإذا بباب السجن يقرع، فتخلصت وخرجت.
فتأدب أيها المؤمن، ولا تطلب أن يخرجك من أمر، ويدخلك فيما سواه، إذا كان ما أنت فيه مما يوافق لسان العلم، فان ذلك من سوء الأدب مع الله.فاصبر لئلا تطلب الخروج بنفسك، فتعطى ما طلبت وتمنع الراحة فيه، فرب تارك سببا، وداخل في غيره ليجد الثروة والراحة، فأتعب وقوبل بوجود التعسر عقوبة لوجود الاختيار.
وفي كلام كتبناه في هذا الكتاب: "طلبك للتجرد مع إقامة الله إياك في الأسباب من الشهوة الخفية وطلبك الأسباب مع إقامة الله إياك في التجريد انحطاط عن الهمة العلية." فافهم رحمك الله: أن من شأن هذا العدو أن يأتيك فيما أنت فيه مما أقامك الله فيه، فيحقره لتطلب غير ما أقامك الله فيه، فيتشوش قلبك ويتكدر وقتك. وذلك انه يأتي للمتسببين فيقول: لو تركتم الأسباب وتجردتم لأشرقت لكم الأنوار، ولصفت منكم القلوب والأسرار، قائلا: وكذلك صنع فلا وفلان، ويكون هذا العبد ليس مقصودا بالتجرد، ولا طاقة له به، وإنما صلاحه في الأسباب فيتركها فيتزلزل إيمانه، ويذهب إيقافه، ولا يتوجه إلى الطلب من الخلق، والى الاهتمام بأمر الرزق، فيرمى في بحر القطيعة، وذلك قصد العدو فيه. لأنه إنما يأتيك في صورة ناصح، إذ لو أتاك في غيرها لم تقبل منه وكما أتى آدم وحواء عليهما السلام في صورة ناصح: {وقال: ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين). كما تقدمك بيانه. {وقاسمهما أني لكما من الناصحين}. كما تقدم بيانه.
وكذلك يأتي للمتجردين ويقول لهم: إلى متى تتركون الأسباب؟ ألم تعلموا أن ترك الأسباب تتطلع مع القلوب إلى ما في أيدي الناس، ويفتح باب الطمع، ولا يمكن الإسعاف ولا الإيثار، ولا القيام بالحقوق؟ وعوض ما تكون منتظرا ما يفتح به عليك من الخلق، فلو دخلت في الأسباب بقي غيرك منتظرا ما يفتح عليه منك. إلى غير ذلك، ويكون هذا العبد قد طاب وقته وانبسط نوره ووجد الراحة بالانقطاع عن الخلق، فلا يزال به حتى يعود إلى الأسباب فيصيبه كدرتها، وتغشاه ظلمتها، ويعود الدائم في سببه أحسن حالا منه. لأن ذلك ما سلك طريقا ثم رجع عنها، ولا قصد قصدا ثم انعطف عنه، فافهم واعتصم بالله منه: {ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط مستقيم}. وإنما قصد الشيطان بذلك أن يمنع العباد من الرضا عن الله فما لهم فيه، وأن يخرجهم عما اختاره الله تعالى لهم إلى مختارهم لأنفسهم. وما أدخلك الله تعالى فيه، تولى إعانتك عليه، وما دخلت فيه بنفسك وكلك إليه.
{وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا}.
فالمدخل الصدق: أن تدخل به لا بنفسك، والمخرج الصدق أيضا كذلك، فافهم.
والذي يقتضيه الحق منك أن تمكن حيث أقامك حتى يكون الحق تعالى هو الذي يتولى إخراجك، كما تولى إدخالك وليس الشأن أن تترك السبب، إنما الشأن أن يتركك السبب، قال بعضهم: "تركت السبب كذا وكذا مرة فعدت إليه، ثم تركني السبب فلم أعد إليه." ودخلت على الشيخ أبي العباس المرسي، وفي نفسي العزم على التجريد قائلا في نفسي: إن الوصول إلى الله تعالى على هذه الحالة بعيد من الاشتغال بالعلم الظاهر، ووجود المخالطة للناس. فقال لي من غير أن اسأله: "صحبني إنسان مشتغل بالعلوم الظاهرة وهو متصدر فيها فذاق من هذه الطريق شيئا فقال: يا سيدي، اخرج عما أنا فيه وأتفرغ بصحبتك؟ فقلت له: ليس الشأن ذا، ولكن أمكث فيما أنت فيه، وما قسم الله لك على أيدينا فهو إليك واصل." ثم قال الشيخ ونظر إلي وقال: "هكذا شأن الصديقين لا يخرجون عن شيء حتى يكون الحق تعالى هو الذي يتولى إخراجهم". فخرجت من عنده وقد غسل الله تعالى من قلبي تلك الخواطر ووجدت الراحة بالتسليم إلى الله، ولكنهم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم).
وجه ثالث: وقد يكون الأجمال في الطلب، وأن تطلب من الله تعالى ويكون قصدك مناجاته لا عين ما طلبت، وإنما يكون الطلب توسلا لها ولذلك قال الشيخ أبو الحسن رحمه الله: (لا يكن همك في دعائك الظفر بقضاء حاجتك فتكون محجوبا عن ربك، ولتكن همتك مناجاة مولاك). وقيل: إن موسى عليه السلام كان يطوف في بني إسرائيل ويقول: (من يحملني رسالة إلى ربي). وذلك: لتطول مناجاته مع الله تعالى.
وجه رابع: وقد يكون لإجمال في الطلب، أن تطلب وأنت تشهد أنك مطلوب بما قسم لك، وأنك مقصود به وليس طلبك موصلا إليه، فيكون طلبك وأنت غريق في بحر العجز مغموس في وجود الفاقة.
وقد يكون الأجمال في الطلب أن لا تطلب بحظ البشرية ولكن لإظهار العبودية كما حكي أن سمنون المحب رحمه الله كان يقول:
وليس لي في سواك حظ *** فكيفما شئت فاختبرني
فابتلي بعلة الأسر، وهو احتباس البول فصبر وتجلد، فطاوله ذلك فصبر وتجلد إلى أن جاءه بعض أصحابه، فقال: يا أستاذي سمعتك البارحة وأنت تطلب من الله الشفاء والعافية ولم يكن هو طلب. ثم جاء ثان، ثم جاء ثالث، ثم جاء رابع. فعلم أن مراد الحق منه إظهار الحاجة والفاقة، فسأل الله الشفاء. ثم صار يدور على صبيان المكاتب ويقول: (أدعو لعمكم الكذاب).
وجه خامس: وقد يكون الأجمال في الطلب أن تطلب من الله ما يكفيك، ولا تطلب منه ما يطغيك، غير متطلع إلى ما سوى الكفاية بالشره، ولا منبسطا إليه بالرغبة، وقد علمنا ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: (اللهم اجعل قوت آل محمد كفانا). والطالب لما زاد على الكفاية ملوم وطالب الكفاية غير ملوم بذلك جاء في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: (ولا تلام على كفاف). ويكفيك في ذلك ما قال رسول الله لثعلبة بن حاطب، لما قال: يا رسول الله، ادع الله أن يرزقني مالا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ثعلبة بن حاطب، قليل تؤدي شكره، خير من كثير لا تطيقه. فكرر عليه ثعلبة فأعاد عليه الصلاة والسلام ما قال أولا:، قليل تؤدي شكره، خير من كثير لا تطيقه.
فما زال إلى أن دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اختار لنفسه، فكان عاقبة اختياره لنفسه، ومخالفته لمختار رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أكثر ماله حتى تعطل عن بعض الصلوات أن يصليها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا صلاة الجمعة، ثم كثرت أغنامه ومواشيه، حتى لم يمكنه صلاة الجمعة أيضا، ثم مصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ منه الزكاة فقال:
ما أرها إلا جزية، أو أخت الجزية وامتنع من دفع الزكاة، وقصته مشهورة، فأنزل الله تعالى فيه: {ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله، لنصّدّقن ولنكوننّ من الصالحين، فلما آتاهم من فضله، بخلوا به وتولوا وهم معرضون، فأعقبهم نفاقا في قلوهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون}.
وجه سادس: وقد يكون الأجمال في الطلب.. أن يطلب العبد حظوظ دنياه قال تعالى: {فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وماله في الآخرة من خلاق، ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار}.
وجه سابع: وقد يكون الأجمال في الطلب أن يكون طلبك غير شاك في القسمة ولا تاركا حفظ الحرمة.
وجه ثامن: وقد يكون الأجمال في الطلب أن تطلب ولا تستعجل الإجابة، وغير الأجمال أن تستعجلها وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك بقوله: (يستجاب لأحدكم ما لم يقل دعوت فلم يستجب لي). وقد دعا موسى وهارون عليهما السلام على فرعون، فيما حكاه الله تعالى عنهما بقوله: {ربهما اطمس على أموالهم، واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم}. فقال سبحانه وتعالى: {قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون}. وكان بين قوله تعالى لهما: {قد أجيبت دعوتكما} وإهلاك فرعون أربعون عاما. قال الشيخ أبو الحسن رحمه الله، في قوله سبحانه وتعالى: {فاستقيما} أي على عدم استعجال ما طلبتما. {ولا تتبعان سبيل الذين لا يعملون}، قال: هم المستعجلون لإجابة.
وجه تاسع: وقد يكون لإجمال في الطلب أن يطلب وهو شاكر لله تعالى إن أعطى، وشاهد حسن اختيار ربه إذا منع، فرب طالب لا يشكر أن أعطى ولا يشهد حسن اختيار ربه في المنع، بل طالب من الله حازم أن المصلحة له، أن يعطى. ومن أين لهذا العبد الجاهل أن يحكم على علم الله، وان يعلم ما فيه غيب الله؟ وكفى بالعبد جهلا أن يتخير على مولاه، بل إذا سألته فسله مفوضا إليه غير مدبر معه ولا مختار عليه: {وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان الخيرة}. هذا فيما أيهم أمره والبيان في ذلك: أن المدعو به على ثلاثة أقسام: ما هو خير قطعا فاطلب من الله السلامة منه من غير استثناء، كالكفر والمعصية. وما هو مبهم الأمر، كالغنى، والعز، والرفعة، فاطلب ذلك من الله تعالى قائلا: (إن علمت ذلك خير لي). كذلك سمعته من الشيخ رحمه الله.
وجه عاشر: وقد يكون الإجمال في الطلب أن يكونوا في الطلب على سابق قسمته معتدين، ولا يكونوا إلى طلبهم مستندين.
وقد يكون الإجمال في الطلب: أن يطلبوا وهم لعدم الاستحقاق شاهدون، فأولئك حري بهم أن يستوجبوا منة رب العالمين، قال الشيخ أبو الحسن رحمه الله: (ما طلبت شيئا إلا وقدمت إساءتي أمامي). يريد رحمة الله حتى لا يطلب من الله بوصف يستحق العطاء،، بل لا يكون طلبه وجود فضله إلا بفضله.
فهذه عشرة أوجه في الإجمال في الطلب، وليس القصد بها الحصر، إذ الأمر أوسع من ذلك، ولكن بحسب ما ناول الغيب، وأنعم به المولى سبحانه وتعالى، وهو كلام صاحب الأنوار المحيطة. فما يأخذ الآخذ منه إلا على حسب نوره، ولا يأخذ من جواهر بحره إلا على قدر قوة غوصه، وكل يفهم على حسب المقام الذي أقيم فيه: {تسقى بماء واحد، ونفضل بعضها عن بعض في الأكل}.
وما لم يأخذوه أكثر مما اخذوا، واسمع قوله عليه الصلاة والسلام: (وأوتيت جوامع الكلم، واختصر لي الكلام اختصارا). فلو عبر العلماء بالله أبد الآباد، عن أسرار الكلمة الواحدة من كلامه، لم يحيطوا بها علما، ولم يقدروا فهما، حتى قال بعضهم: (عملت بهذا الحديث سبعين عاما وما فرغت منه، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه). وصدق رضي الله عنه، ولو مكث عمر الدنيا أجمع وأبد الآباد لم يفرغ من حقوق هذا الحديث، وما أودع فيه من غرائب العلوم وأسرار الفهوم.
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى