حكمة اختبار الله للإنسان
صفحة 1 من اصل 1
حكمة اختبار الله للإنسان
حكمة اختبار الله للإنسان
فائدة أخرى: وهو أن الحق تعالى أراد أن يختبر هذا الآدمي فأحوجه لأمور شتى لينظر أيدخل في استجلابها بعقله وتدبيره، أو يرجع إلى الله في قسمته وتقديره.
فائدة أخرى: وهو انه سبحانه وتعالى أراد أن يتحبب إلى هذا العبد، فلما أورد عليه أسباب الفاقة ورفعها عنه، وجد العبد لذلك حلاوة في نفسه، وراحته في قلبه، فأوجب له ذلك تجديد الحب لربه، قال صلى الله عليه وسلم: (أحبوا الله لما يغذوكم به نعمه). فكلما تجددت النعم تجدد له من الحب بحسبها.
فائدة أخرى: وهو أنه سبحانه وتعالى، أراد أن يشكر، فلذلك أورد الفاقة على العباد، وتولى رفعها ليقوموا له بوجود شكره، وليعرفوه بإحسانه وبره، قال الله تعالى:
{كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور}.
فائدة أخرى: وذلك انه تعالى أراد أن يفتح للعباد باب المناجاة، فكلما احتاجوا إلى الأقوات والنعم، توجهوا إليه برفع الهمم، فشرفوا بمناجاته ومنحوا من هباته، ولو لم تسقهم الفاقة إلى المناجاة لم يفقهها عقول العموم من العباد. ولولا الحاجة لم يستفتح بابها إلا عقول أهل الوداد.
فصار ورود الفاقة سببا للمناجاة والمناجاة شرف عظيم، ومنصب من الكرامة جسيم.
إلا ترى أن الحق سبحانه وتعالى أخبر عن موسى عليه السلام بقوله سبحانه وتعالى:
{فسقى لهم ثم تولى إلى الظل، فقال، رب أني لما أنزلت إلي من خير فقير}.
قال علي رضي الله عنه والله ما طلب إلا خبزا يأكله، ولقد كانت خضرة البقل ترى من شفيف صفاق بطنه، لهزاله.
فانظر رحمك الله: كيف سأل من ربه ذلك لعلمه أنه لا يملك شيئا غيره، وكذلك ينبغي للمؤمن أن يكون كذلك، يسأل الله تعالى ما قل وجل حتى قال بعضهم:
{أني لأسأل الله في صلاتي حتى ملح عجيني}.
ولا يصدنك أيها المؤمن عن طلب ما تحتاج إليه من الله قلة ذلك فانه إن لم تسأله في القليل، لم تجد ربا يعطيك ذلك غيره والمطلب وان كان قليلا، فقد صار لفتح باب المناجاة جليلا، حتى قال الشيخ أبو الحسن رحمه الله:
لا يكن همك في دعائك، الظفر بقضاء حاجتك فتكون محجوبا عن ربك، وليكن همك مناجاة مولاك، وفي هذه الآية فوائد:
الفائدة الأولى: وهو أن يكون المؤمن طالبا من ربه ما قل وجل، وقد ذكرناه آنفا.
الفائدة الثانية: أنه صلى الله عليه وسلم نادى متعلقا باسم الربوبية لأنه المناسب في هذا المكان، لأن الرب من رباك بإحسانه، وغذاك بامتنانه، فكان في ذلك استعطاف لسيده إذ ناداه باسم الربوبية، التي ما قطع عنه موائدها، ولا حبس فوائدها.
الفائدة الثالثة: قوله: {إني لما أنزلت إلي من خير فقير، ولم يقل أني إلى الخير فقير، وفي ذلك من الفائدة: أنه لو قال: إني {إلى خيرك أو الخير فقير}، لم يتضمن أنه قد أنزل رزقه، ولم يهمك أمره.
فأتى بقوله: {أني لما أنزلت إلي من خير فقير، ليدل على أنه واثق بالله، عالم بالله لا ينساه، فكأنه يقول:
رب أني اعلم انك لا تهمل أمري، ولا أمر شيء، مما خلقت، وانك قد أنزلت رزقي، فسق لي ما أنزلت لي، كيف تشاء على ما تشاء محفوفا بإحسانك مقرونا بامتنانك، فكان في ذلك فائدتان:
فائدة الطلب، وفائدة الاعتراف بان الحق سبحانه وتعالى قد أنزل رزقه ولكنه أبهم وقته، وسببه، وواسطته، ليقع اضطرار العبد، ومع الاضطرار تكون الإجابة، لقوله تعالى:
{أمن يجيب المضطر إذا دعاه}.
ولو تعين السبب والوقت والوسائط، لم يقع للعباد الاضطرار الذي وجوده عند إبهامها، فسبحان الإله الحكيم، والقادر العليم.
الفائدة الرابعة: تدل الآية على أن الطلب من الله تعالى، لا يناقض مقام العبودية وبعد ذلك طلب من الله، فدل على أن مقام العبودية لا يناقض الطلب.
فان قلت: إن كان مقام العبودية لا يناقض الطلب، فكيف لم يطلب إبراهيم خليل الله صلى الله عليه وسلم حين رمي به في المنجنيق وتعرض له جبريل عليه السلام، فقال: ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا، وأما الله فبلى.
قال: سله، قال: حسبني من سؤالي، علمه بحالي.
فاكتفى بعلم الله تعالى به عن إظهار الطلب منه.
فالجواب: أن الأنبياء صلوات الله عليهم يعاملون في كل موطن بما يفهمون عن الحق، أنه اللائق به.
ففهم إبراهيم عليه السلام أن المراد به في ذلك الموطن، عدم إظهار الطلب والاكتفاء بالعلم، فكان بما فهمه عن ربه، وكان هذا لأن الحق سبحانه أراد أن يظهر سره، وعنايته به للملأ الأعلى الذين لما قال لهم: {إني جاعل في الأرض خليفة، قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء، ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك؟ قال: أني اعلم ما لا تعلمون}.
فأراد الحق تعالى، أن يظهر سر قوله: {إني أعلم ما لا تعلمون}.
يوم زج بإبراهيم عليه السلام في المنجنيق، كأنه يقول:
يا من قال: أتجعل فيها من يفسد فيها، فكيف رأيتم خليلي؟
نظرتهم إلى ما يكون في الأرض من صنع أهل الفساد، كنمرود ومن ضاهاه من أهل الفساد، وما نظرتم إلى ما يكون فيها من أهل الصلاح والرشاد، كما كان من إبراهيم عليه السلام ومن تابعه من أهل الوداد؟
وأما موسى صلوات الله عليه، فانه علم أن مراد الحق تعالى منه في ذلك الوقت إظهار الفاقة، وإبداء المسألة فقام بما يقتضيه وقته، ولكل وجهة هو موليها.
فكل على بينة وهداية، وتوفيق من الله ورعاية.
الفائدة الخامسة: انظر إلى طلب موسى عليه السلام من ربه، وجود الرزق، ولم يواجهه بالطلب، بل اعترف بين يدي الله بوصف الفقر والفاقة، وشهد له سبحانه وتعالى بالغنى لأنه إذا عرف نفسه بالفقر والفاقة عرف به بالغنى والملاءة وهذا من بسط المناجاة وهي كثيرة:
فتارة يجلسك على بساط الفاقة فتناديه: يا غني.
وتارة على بساط الذلة فتناديه يا عزيز.
وتارة على بساط العجز فتناديه: يا قوي.
وكذلك في بقية الأسماء.
فاعترف موسى عليه السلام بالفقر والفاقة إلى الله تعالى، فكان في ذلك تعريض للطلب وان لم يطلب.
وقد يكون التعريض للتطلب بذكر أوصاف العبد من فقره إلى الله تعالى وحاجته.
وقد يكون التعريض بذكر أوصاف السيد من وجوده وأحديته كما جاء في الحديث:
(أفضل دعائي ودعاء الأنبياء من قبلي لا اله إلاّ الله، وحده لا شريك له).
فجعل الثناء على الله تعالى دعاء لأن في الثناء على السيد الغني بذكر أوصاف كماله تعريضا لفضله ونواله، كما قال الشاعر:
كريم لا يغيره صباح *** عن الخلق الكريم ولا مساء
إذا أثنى عليه المرء يوما *** كفاه من تعوضه الثناء
وقال الله تعالى حاكيا عن يونس عليه السلام:
{فنادى في الظلمات أن لا اله إلاّ أنت سبحانك إني كنت من الظالمين}.
ثم قال سبحانه وتعالى مخبرا عن نفسه:
{فاستجبنا له ونجيناه من الغم، وكذلك ننجي المؤمنين}.
ويونس عليه السلام لم يطلب صريحا ولكن لما أثنى على ربه عز وجل واعترف بين يديه فقد أظهر الفاقة إليه فجعل الحق تعالى ذلك طلبا.
الفائدة السادسة: وكان من حقها أن تكون أولى: إن موسى عليه السلام فعل المعروف مع ابنتي شعيب عليه السلام، ولم يقصد منهما أجرا، ولا طلب منهما جزاء، بل لما سقي لهما اقبل على ربه، فطلب منه، ولم يطلب منهما، وإنما طلب من مولاه الذي مهما طلب منه أعطاه، والصوفي من يوفى من نفسه، ولا يستوفى لهاو ولنا في هذا المعنى شعر:
لا تشتغل بالعتب يوما للورى *** فيضيع وقتك والزمان قصير
وعلام تعتبهم وأنت مصدق *** إن الأمور جرى بها المقدور
هم لم يوفوا للإله بحقه *** أتريد توفيه وأنت حقير؟
فاشهد حقوقهم عليك وقم بها *** واستوف منك لهم وأنت صبور
وإذا فعلت فاشهد بعين من *** هو بالخفايا عالم وخبير
فموسى عليه السلام وفي من نفسه ولم يستوف لها، فكان له عند الله الجزاء الأكمل، وعجل له سبحانه في الدنيا زائدا على ما ادخره له في الآخرة: أن زوجه إحدى الابنتين، وجعله صهرا لنبيه عليه السلام، وآنسه به حتى جاء أوان رسالته.
فلا تجعل معاملتك إلا مع الله تعالى، أيها العبد، تكن من الرابحين، ويكرمك بما أكرم به العباد المتقين.
الفائدة السابعة: انظر إلى قوله سبحانه وتعالى: {فسقى لهما تم ثم تولى إلى الظل}.
ففي ذلك دليل على انه يجوز للمؤمن أن يؤثر الظلال على الضواحي، وبارد الماء على سخنه، وأسهل الطريقين على أشقهما وأوعرهما ولا يخرجه ذلك عن مقام الزهد.
ألا ترى أن الحق سبحانه وتعالى أخبر عن موسى عليه السلام، انه تولى إلى الظل أي قصده وجاء إليه.
فان قلت قد جاء عن بعضهم: انه دخل عليه فوجد قد انبسطت الشمس على قلته التي يشرب منها، فقيل له في ذلك، فقال:
أني لما وضعتها لم يكن شمس، واني لأستحي أن امشي بحظ نفسي.
فاعلم رحمك الله: أن هذا حال عبد يتطلب الصدق من نفسه ويمنعها مناها ليشغلها بذلك عن الغفلة عن مولاها، ولو اكتمل مقامه لرفع الماء عن الشمس قاصدا بذلك قيامه بحق نفسه التي أمر الله تعالى أن يقوم بها لا استجلابا لحظه، ولكن ليقوم بحق ربه في نفسه، وقد قال سبحانه وتعالى:
{يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر}.
وقال تعالى: {يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا}.
ولذلك كان عند الفقهاء: إذا نذر المشي إلى مكة شرفها الله حافيا جاز له أن ينتعل ولا يلزمه الحفاء، لأنه ليس للشرع في متاعب العباد قصد خاص، ولم تأت الشرائع بمنع الملاذ للعباد، وكيف وهي مخلوقة من أجلهم.
قال الربيع ابن زياد الحارثي لعلي رضي الله عنه: أسعدني على أخي عاصم، قال: ما باله؟ قال: لبس العباءة يريد النسك فقال علي رضي الله عنه: علي به.
فأتى مؤتزرا بعباءة مترديا بأخرى، شعث الرأس واللحية فعبس في وجهه وقال:
ويحك: أما استحيت من اهلك؟ أما رحمت ولدك؟
أترى أن الله تعالى أباح لك الطيبات وهو يكره أن تنال منها شيئا بل أنت أهون على الله.
أما سمعت من الله يقول في كتابه:
{والأرض وضعها للأنام.. إلى قوله يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان}.
أفترى من الله أباح هذا للعباد إلا ليبتذلوه، ويحمدوا الله عليه فيثيبهم؟ وان ابتذالك نعم الله بالفعل خير منه المقال، قال عاصم: (فما بالك في خشونة مأكلك وخشونة ملبسك).
قال: ويحك أن الله فرض على أئمة الحق أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس.
فقد تبين لك من علي رضي الله عنه، أن الحق تعالى لم يطالب العبد بعدم تنازل الملذوذات وإنما طالبهم بالشكر عليها إذ تناولوها فقال تعالى:
{كلوا من رزق ربكم واشكروا له}.
وقال: {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات واعملوا صالحا}.
ولم يقل: لا تأكلوا، وإنما قال: كلوا واعملوا.
فان قلت: الطيبات في هاتين الآيتين: المراد بها الحلال،، إذ هو الطيب باعتبار نظر الشرع.
فاعلم انه يمكن أن يكون المراد بالطيبات الحلال، لأنه طيب باعتبار انه لم يتعلق به إثم ولا مذمة ولا حجبة.
ويمكن أن يكون المراد بالطيبات، الملذوذات من المطاعم، ويكون سر إباحتها، والأمر بأكلها ليجد متناولها لذاذتها فتنشط همته للشكر فيقوم بوجود الخدمة، ويرعى حق المحرمة.
قال لي الشيخ أبو الحسن رحمه الله: قال لي شيخ: يا بني، برد الماء، فان العبد إذا شرب الماء الساخن، قال: الحمد لله بكزازة، وإذا شرب الماء البارد. فقال الحمد لله، استجاب كل عضو فيه بالحمد لله.
ثم قال: وأما الذي دخل عليه فوجد قد انبسطت الشمس على قلته، فقيل له: ألا ترفعها؟ فقال: حين وضعتها لم تكن شمس، واني لاستحي أن امشي لحظ نفسي، فانه صاحب حال لا يقتدى به.
فائدة أخرى: وهو أن الحق تعالى أراد أن يختبر هذا الآدمي فأحوجه لأمور شتى لينظر أيدخل في استجلابها بعقله وتدبيره، أو يرجع إلى الله في قسمته وتقديره.
فائدة أخرى: وهو انه سبحانه وتعالى أراد أن يتحبب إلى هذا العبد، فلما أورد عليه أسباب الفاقة ورفعها عنه، وجد العبد لذلك حلاوة في نفسه، وراحته في قلبه، فأوجب له ذلك تجديد الحب لربه، قال صلى الله عليه وسلم: (أحبوا الله لما يغذوكم به نعمه). فكلما تجددت النعم تجدد له من الحب بحسبها.
فائدة أخرى: وهو أنه سبحانه وتعالى، أراد أن يشكر، فلذلك أورد الفاقة على العباد، وتولى رفعها ليقوموا له بوجود شكره، وليعرفوه بإحسانه وبره، قال الله تعالى:
{كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور}.
فائدة أخرى: وذلك انه تعالى أراد أن يفتح للعباد باب المناجاة، فكلما احتاجوا إلى الأقوات والنعم، توجهوا إليه برفع الهمم، فشرفوا بمناجاته ومنحوا من هباته، ولو لم تسقهم الفاقة إلى المناجاة لم يفقهها عقول العموم من العباد. ولولا الحاجة لم يستفتح بابها إلا عقول أهل الوداد.
فصار ورود الفاقة سببا للمناجاة والمناجاة شرف عظيم، ومنصب من الكرامة جسيم.
إلا ترى أن الحق سبحانه وتعالى أخبر عن موسى عليه السلام بقوله سبحانه وتعالى:
{فسقى لهم ثم تولى إلى الظل، فقال، رب أني لما أنزلت إلي من خير فقير}.
قال علي رضي الله عنه والله ما طلب إلا خبزا يأكله، ولقد كانت خضرة البقل ترى من شفيف صفاق بطنه، لهزاله.
فانظر رحمك الله: كيف سأل من ربه ذلك لعلمه أنه لا يملك شيئا غيره، وكذلك ينبغي للمؤمن أن يكون كذلك، يسأل الله تعالى ما قل وجل حتى قال بعضهم:
{أني لأسأل الله في صلاتي حتى ملح عجيني}.
ولا يصدنك أيها المؤمن عن طلب ما تحتاج إليه من الله قلة ذلك فانه إن لم تسأله في القليل، لم تجد ربا يعطيك ذلك غيره والمطلب وان كان قليلا، فقد صار لفتح باب المناجاة جليلا، حتى قال الشيخ أبو الحسن رحمه الله:
لا يكن همك في دعائك، الظفر بقضاء حاجتك فتكون محجوبا عن ربك، وليكن همك مناجاة مولاك، وفي هذه الآية فوائد:
الفائدة الأولى: وهو أن يكون المؤمن طالبا من ربه ما قل وجل، وقد ذكرناه آنفا.
الفائدة الثانية: أنه صلى الله عليه وسلم نادى متعلقا باسم الربوبية لأنه المناسب في هذا المكان، لأن الرب من رباك بإحسانه، وغذاك بامتنانه، فكان في ذلك استعطاف لسيده إذ ناداه باسم الربوبية، التي ما قطع عنه موائدها، ولا حبس فوائدها.
الفائدة الثالثة: قوله: {إني لما أنزلت إلي من خير فقير، ولم يقل أني إلى الخير فقير، وفي ذلك من الفائدة: أنه لو قال: إني {إلى خيرك أو الخير فقير}، لم يتضمن أنه قد أنزل رزقه، ولم يهمك أمره.
فأتى بقوله: {أني لما أنزلت إلي من خير فقير، ليدل على أنه واثق بالله، عالم بالله لا ينساه، فكأنه يقول:
رب أني اعلم انك لا تهمل أمري، ولا أمر شيء، مما خلقت، وانك قد أنزلت رزقي، فسق لي ما أنزلت لي، كيف تشاء على ما تشاء محفوفا بإحسانك مقرونا بامتنانك، فكان في ذلك فائدتان:
فائدة الطلب، وفائدة الاعتراف بان الحق سبحانه وتعالى قد أنزل رزقه ولكنه أبهم وقته، وسببه، وواسطته، ليقع اضطرار العبد، ومع الاضطرار تكون الإجابة، لقوله تعالى:
{أمن يجيب المضطر إذا دعاه}.
ولو تعين السبب والوقت والوسائط، لم يقع للعباد الاضطرار الذي وجوده عند إبهامها، فسبحان الإله الحكيم، والقادر العليم.
الفائدة الرابعة: تدل الآية على أن الطلب من الله تعالى، لا يناقض مقام العبودية وبعد ذلك طلب من الله، فدل على أن مقام العبودية لا يناقض الطلب.
فان قلت: إن كان مقام العبودية لا يناقض الطلب، فكيف لم يطلب إبراهيم خليل الله صلى الله عليه وسلم حين رمي به في المنجنيق وتعرض له جبريل عليه السلام، فقال: ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا، وأما الله فبلى.
قال: سله، قال: حسبني من سؤالي، علمه بحالي.
فاكتفى بعلم الله تعالى به عن إظهار الطلب منه.
فالجواب: أن الأنبياء صلوات الله عليهم يعاملون في كل موطن بما يفهمون عن الحق، أنه اللائق به.
ففهم إبراهيم عليه السلام أن المراد به في ذلك الموطن، عدم إظهار الطلب والاكتفاء بالعلم، فكان بما فهمه عن ربه، وكان هذا لأن الحق سبحانه أراد أن يظهر سره، وعنايته به للملأ الأعلى الذين لما قال لهم: {إني جاعل في الأرض خليفة، قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء، ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك؟ قال: أني اعلم ما لا تعلمون}.
فأراد الحق تعالى، أن يظهر سر قوله: {إني أعلم ما لا تعلمون}.
يوم زج بإبراهيم عليه السلام في المنجنيق، كأنه يقول:
يا من قال: أتجعل فيها من يفسد فيها، فكيف رأيتم خليلي؟
نظرتهم إلى ما يكون في الأرض من صنع أهل الفساد، كنمرود ومن ضاهاه من أهل الفساد، وما نظرتم إلى ما يكون فيها من أهل الصلاح والرشاد، كما كان من إبراهيم عليه السلام ومن تابعه من أهل الوداد؟
وأما موسى صلوات الله عليه، فانه علم أن مراد الحق تعالى منه في ذلك الوقت إظهار الفاقة، وإبداء المسألة فقام بما يقتضيه وقته، ولكل وجهة هو موليها.
فكل على بينة وهداية، وتوفيق من الله ورعاية.
الفائدة الخامسة: انظر إلى طلب موسى عليه السلام من ربه، وجود الرزق، ولم يواجهه بالطلب، بل اعترف بين يدي الله بوصف الفقر والفاقة، وشهد له سبحانه وتعالى بالغنى لأنه إذا عرف نفسه بالفقر والفاقة عرف به بالغنى والملاءة وهذا من بسط المناجاة وهي كثيرة:
فتارة يجلسك على بساط الفاقة فتناديه: يا غني.
وتارة على بساط الذلة فتناديه يا عزيز.
وتارة على بساط العجز فتناديه: يا قوي.
وكذلك في بقية الأسماء.
فاعترف موسى عليه السلام بالفقر والفاقة إلى الله تعالى، فكان في ذلك تعريض للطلب وان لم يطلب.
وقد يكون التعريض للتطلب بذكر أوصاف العبد من فقره إلى الله تعالى وحاجته.
وقد يكون التعريض بذكر أوصاف السيد من وجوده وأحديته كما جاء في الحديث:
(أفضل دعائي ودعاء الأنبياء من قبلي لا اله إلاّ الله، وحده لا شريك له).
فجعل الثناء على الله تعالى دعاء لأن في الثناء على السيد الغني بذكر أوصاف كماله تعريضا لفضله ونواله، كما قال الشاعر:
كريم لا يغيره صباح *** عن الخلق الكريم ولا مساء
إذا أثنى عليه المرء يوما *** كفاه من تعوضه الثناء
وقال الله تعالى حاكيا عن يونس عليه السلام:
{فنادى في الظلمات أن لا اله إلاّ أنت سبحانك إني كنت من الظالمين}.
ثم قال سبحانه وتعالى مخبرا عن نفسه:
{فاستجبنا له ونجيناه من الغم، وكذلك ننجي المؤمنين}.
ويونس عليه السلام لم يطلب صريحا ولكن لما أثنى على ربه عز وجل واعترف بين يديه فقد أظهر الفاقة إليه فجعل الحق تعالى ذلك طلبا.
الفائدة السادسة: وكان من حقها أن تكون أولى: إن موسى عليه السلام فعل المعروف مع ابنتي شعيب عليه السلام، ولم يقصد منهما أجرا، ولا طلب منهما جزاء، بل لما سقي لهما اقبل على ربه، فطلب منه، ولم يطلب منهما، وإنما طلب من مولاه الذي مهما طلب منه أعطاه، والصوفي من يوفى من نفسه، ولا يستوفى لهاو ولنا في هذا المعنى شعر:
لا تشتغل بالعتب يوما للورى *** فيضيع وقتك والزمان قصير
وعلام تعتبهم وأنت مصدق *** إن الأمور جرى بها المقدور
هم لم يوفوا للإله بحقه *** أتريد توفيه وأنت حقير؟
فاشهد حقوقهم عليك وقم بها *** واستوف منك لهم وأنت صبور
وإذا فعلت فاشهد بعين من *** هو بالخفايا عالم وخبير
فموسى عليه السلام وفي من نفسه ولم يستوف لها، فكان له عند الله الجزاء الأكمل، وعجل له سبحانه في الدنيا زائدا على ما ادخره له في الآخرة: أن زوجه إحدى الابنتين، وجعله صهرا لنبيه عليه السلام، وآنسه به حتى جاء أوان رسالته.
فلا تجعل معاملتك إلا مع الله تعالى، أيها العبد، تكن من الرابحين، ويكرمك بما أكرم به العباد المتقين.
الفائدة السابعة: انظر إلى قوله سبحانه وتعالى: {فسقى لهما تم ثم تولى إلى الظل}.
ففي ذلك دليل على انه يجوز للمؤمن أن يؤثر الظلال على الضواحي، وبارد الماء على سخنه، وأسهل الطريقين على أشقهما وأوعرهما ولا يخرجه ذلك عن مقام الزهد.
ألا ترى أن الحق سبحانه وتعالى أخبر عن موسى عليه السلام، انه تولى إلى الظل أي قصده وجاء إليه.
فان قلت قد جاء عن بعضهم: انه دخل عليه فوجد قد انبسطت الشمس على قلته التي يشرب منها، فقيل له في ذلك، فقال:
أني لما وضعتها لم يكن شمس، واني لأستحي أن امشي بحظ نفسي.
فاعلم رحمك الله: أن هذا حال عبد يتطلب الصدق من نفسه ويمنعها مناها ليشغلها بذلك عن الغفلة عن مولاها، ولو اكتمل مقامه لرفع الماء عن الشمس قاصدا بذلك قيامه بحق نفسه التي أمر الله تعالى أن يقوم بها لا استجلابا لحظه، ولكن ليقوم بحق ربه في نفسه، وقد قال سبحانه وتعالى:
{يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر}.
وقال تعالى: {يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا}.
ولذلك كان عند الفقهاء: إذا نذر المشي إلى مكة شرفها الله حافيا جاز له أن ينتعل ولا يلزمه الحفاء، لأنه ليس للشرع في متاعب العباد قصد خاص، ولم تأت الشرائع بمنع الملاذ للعباد، وكيف وهي مخلوقة من أجلهم.
قال الربيع ابن زياد الحارثي لعلي رضي الله عنه: أسعدني على أخي عاصم، قال: ما باله؟ قال: لبس العباءة يريد النسك فقال علي رضي الله عنه: علي به.
فأتى مؤتزرا بعباءة مترديا بأخرى، شعث الرأس واللحية فعبس في وجهه وقال:
ويحك: أما استحيت من اهلك؟ أما رحمت ولدك؟
أترى أن الله تعالى أباح لك الطيبات وهو يكره أن تنال منها شيئا بل أنت أهون على الله.
أما سمعت من الله يقول في كتابه:
{والأرض وضعها للأنام.. إلى قوله يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان}.
أفترى من الله أباح هذا للعباد إلا ليبتذلوه، ويحمدوا الله عليه فيثيبهم؟ وان ابتذالك نعم الله بالفعل خير منه المقال، قال عاصم: (فما بالك في خشونة مأكلك وخشونة ملبسك).
قال: ويحك أن الله فرض على أئمة الحق أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس.
فقد تبين لك من علي رضي الله عنه، أن الحق تعالى لم يطالب العبد بعدم تنازل الملذوذات وإنما طالبهم بالشكر عليها إذ تناولوها فقال تعالى:
{كلوا من رزق ربكم واشكروا له}.
وقال: {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات واعملوا صالحا}.
ولم يقل: لا تأكلوا، وإنما قال: كلوا واعملوا.
فان قلت: الطيبات في هاتين الآيتين: المراد بها الحلال،، إذ هو الطيب باعتبار نظر الشرع.
فاعلم انه يمكن أن يكون المراد بالطيبات الحلال، لأنه طيب باعتبار انه لم يتعلق به إثم ولا مذمة ولا حجبة.
ويمكن أن يكون المراد بالطيبات، الملذوذات من المطاعم، ويكون سر إباحتها، والأمر بأكلها ليجد متناولها لذاذتها فتنشط همته للشكر فيقوم بوجود الخدمة، ويرعى حق المحرمة.
قال لي الشيخ أبو الحسن رحمه الله: قال لي شيخ: يا بني، برد الماء، فان العبد إذا شرب الماء الساخن، قال: الحمد لله بكزازة، وإذا شرب الماء البارد. فقال الحمد لله، استجاب كل عضو فيه بالحمد لله.
ثم قال: وأما الذي دخل عليه فوجد قد انبسطت الشمس على قلته، فقيل له: ألا ترفعها؟ فقال: حين وضعتها لم تكن شمس، واني لاستحي أن امشي لحظ نفسي، فانه صاحب حال لا يقتدى به.
مواضيع مماثلة
» عمر رضي الله عنه يبكي عند قبر رسول الله صلى الله عليه و سلم
» موقف الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور رحمه الله من الخلافات التي حصلت بين الصحابة رضي الله عنهم
» عبد الله بن محمد عبد الله بن عبد الكريم الحاجب البكري
» محمد بن عبد الله بن الكبير المكنى بأبي عبد الله
» حديث توسل الاعمى برسول الله صل الله علي و سلم
» موقف الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور رحمه الله من الخلافات التي حصلت بين الصحابة رضي الله عنهم
» عبد الله بن محمد عبد الله بن عبد الكريم الحاجب البكري
» محمد بن عبد الله بن الكبير المكنى بأبي عبد الله
» حديث توسل الاعمى برسول الله صل الله علي و سلم
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى