طريان التدبير
صفحة 1 من اصل 1
طريان التدبير
طريان التدبير
تنبيه وإعلام: اعلم أن التدبير أكثر طريانه على العباد المتوجهين، وأهل السلوك من المريدين قبل الرسوخ في اليقين، ووجود القوة والتمكين، وذلك لأن أهل الغفلة والإساءة قد أجابوا الشيطان في الكبائر والمخالفات واتباع الشهوات، فليس للشيطان حاجة أن يدعوهم إلى التدبير، ولو دعاهم إليه لأجابوه بسرعة فليس هو أقوى أسبابه فيهم، إنما يدخل بذلك على أهل الطاعة والمتوجهين لعجزه عن أن يدخل من غير ذلك عليهم.
فرب صاحب ورد عطلة عن ورده أو عن الحضور مع الله تعالى فيه هم التدبير والفكرة في مصالح نفسه.
ورب ذي ورد استضعفه الشيطان فألقى إليه دسائس التدبير ليعكر عليه صفاء وقته، لأنه حاسد، والحاسد أشد ما يكون لك حسدا، إذا صفت لك الأوقات، وحسنت منك الحالات.
ثم إن وساوس التدبير ترد على كل أحد من حيث حاله:
فمن كان تدبيره في تحصيل كفاية يومه أو غده فعلاجه أن يعلم أن الله تعالى قد تكفل له برزقه لقوله تعالى: {وما من دابة في الأرض إلاّ على الله رزقها}.
وسيأتي بسط القول في أمر الرزق، بعد هذا في باب منفرد إن شاء الله تعالى.
ومن كان تدبيره في دفع ضرر العدو الذي لا طاقة له به، فليعلم أن الذي يخافه ناصيته بيد الحق تعالى، وأنه لا يصنع إلا ما صنعه الحق فيه، وليذكر قوله تعالى:
{ومن يتوكل على الله فهو حسبه}.
وقوله تعالى: {أليس الله بكاف عبده، ويخوفونك بالذين من دونه}.
وقوله تعالى: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل، فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله، والله ذو فضل عظيم}. وأصغ بسمع قلبك إلى قوله تعالى:
{فإذا خفت عليه فالقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني}.
ولتعلم أن الحق تعالى أولى من استجير به فأجار، لقوله تعالى:
{وهو يجير ولا يجار عليه}.
وأولى من استحفظ فحفظ لقوله تعالى: {فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين}.
وإن كان التدبير من أجل ديون حلت لا وفاء لها ولا صبر لأربابها، فاعلم أن الذي يسري عليك بلطفه من أعطاك، هو الذي ييسر بلطفه الوفاء عنك:
{هل جزاء الإحسان إلا الإحسان}.
(وأف لعبد يسكن لما في يده، ولا يسكن لما في يد الحق تعالى له، وإن كان التدبير من أجل عائلة تركتهم وراء ظهرك لا شيء يقوم بهم فاعلم أن الذي يقوم بهم بعد مماتك هو الذي يقوم بهم في حضورك وغيبتك في حياتك، واسمع ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل).
فالذي ترجوه أمامك هو الذي يرجى لما وراءك، واسمع قول بعضهم:
إن الذي وجهت وجهي له *** هو الذي خلفت في أهلي
لم يخف عنه حالهم ساعة *** وفضله أوسع من فضلي
وأن الله أرحم بهم منك، فلا تهتم بمن هو في كفالة غيرك. وان كان تدبيرك واهتمام من اجل مرض نزل بك تخاف أن تتطاول ساعات وتمتد أوقاته، فاعلم أن للبلايا والأسقام أعمارا، فكما لا يموت حيوان إلا عند انقضاء عمره، كذلك لا تنقضي بلية حتى ينقضي ميقاتها، واذكر قوله تعالى:
{فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون}.
وكان ولد لبعض المشايخ فتوفي أبوه وبقي الولد بعده فامتسكت عليه أمداد الوقت، وكان لأبيه أصحاب قد تفرقوا بالعراق، فتفكر أي أصحاب أبيه بقصد؟
ثم أجمع عزمه على أن يقصد أوجههم عند الناس، فلما قدم عليه أكرمه وأجل محله، ثم قال:
يا سيدي، وابن سيدي؟ ما الذي جاء بك؟ قال:
توقفت على أسباب الدنيا، فأريد أن تتحدث لي عند أمير البلدة، لعل أن يجعلني على جهة من جهاته فيكون فيها تمشية حالي، فاطرق الشيخ مليا، ثم رفع رأسه إليه، وقال:
ليس في قدرتي أن أجعل أول الليل سحرا، أين أنا منك إذا وليت حكم العراقين؟.
فخرج ولد ذلك الشيخ من عنده متغيظا، ولم يفهم ما قال له الرجل الصالح.
فاتفق أن طلب الخليفة، من يعلم ولده، فدل عليه، وقيل له: ولد فلان فاحضر لتعليم ولد الخليفة، فمكث يعلم ولد الخليفة مدة التعليم ويجالسه بعد ذلك حتى تكملت أربعين عاما واستخلف ولده فتوفي الخليفة الذي كان هذا معلما له فولاه حكم العراقين.
وإن كانت الفكرة لأجل زوجة أو أمة فقدتها، كانت توافقك في أحوالك، وتقوم بمهمات أشغالك، فاعلم أن الذي يسرها لك لم ينفذ فضله، وإحسانه لم ينقطع، وهو قدير على أن يهبك من منته ما يزيد حسنا ومعرفة على ما فقدت، فلا تكن من الجاهلين.
ووجوه التدبير لا تتعدد عاجلاتها، فاستقصاء وجوهها وعاجلاتها لا سبيل إليه لانتشارها، وعم انحصارها، ومتى أعطاك الله الفهم عرفك كيف تصنع.
تنبيه وإعلام
اعلم أن التدبير إنما يكون من النفس لوجود الحجاب فيها، ولو سلم القلب من مجاورتها، وصين من محادثتها، لم تطرقه طوارق التدبير.
وسمعت شيخنا أبا العباس المرسي رضي الله عنه يقول:
(إن الله سبحانه وتعالى، لما خلق الأرض على الماء، اضطربت فأرساها بالجبال، فقال: {والجبال أرساها}.
(كذلك لما خلق النفس اضطربت فأرساها بجبال العقل).
انتهى كلام الشيخ أبي العباس رضي الله عنه.
فأي عبد توفر عقله، واتسع نوره تنزلت عليه السكينة من ربه، فسكنت في نفسه عن الاضطراب، ووثقت بولي الأسباب فكانت مطمئنة، أي خامدة ساكنة لأحكام الله، ثابتة لأقداره، ممدودة بتأييده وأنواره، خارجة عن التدبير والمنازعة، مسلمة لمولاها بأنه يراها:
{أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد}.
فاستحقت أنه يقال لها:
{يا أيتها النفس المطمئنة، ارجعي إلى ربك راضية مرضية، فادخلي في عبادي وادخلي جنتي}.
وفي هذه الآية خصائص عظيمة، ومناقب لهذه النفس المطمئنة جسمية منها: أن النفوس ثلاثة:
أمارة - ولوامة - ومطمئنة.
فلم يواجه الحق سبحانه وتعالى واحدة، من الأنفس الثلاث إلا المطمئنة، فقال في الأمارة:
{إن النفس لأمارة بالسوء}.
وفي اللوامة: {ولا اقسم بالنفس اللوامة}.
واقبل على هذه بالخطاب فقال: {يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي}.
الثاني: تكنيته إياها، والتكنية في لغة العرب تجليل في الخطاب، وفخر عند أولى الألباب:
الثالث: مدحه إياها بالطمأنينة ثناء منه عليها بالاستسلام إليه، والتوكل عليه.
الرابع: وصفة هذه النفس بالطمأنينة، والمطمئن هو المنخفض من الأرض، فإذا انخفضت بتواضعها وانكسارها، أثنى عليها مولاها إظهارا لفخرها لقوله صلى الله عليه وسلم:
(من تواضع لله رفعه الله).
الخامس: قوله تعالى: {ارجعي إلى ربك راضية مرضية}.
فيه إشارة إلى انه لا يؤذن للنفس الأمارة، واللوامة بالرجوع إلى الله تعالى رجوع الكرامة، بل إنما ذلك للنفس المطمئنة لأجل ما هي عليه من الطمأنينة قيل لها:
{ارجعي إلى ربك راضية مرضية}.
فقد أبحنا لك الدخول إلى حضرتنا، والخلود في جنتنا، فكان في ذلك تحريض للعبد على مقام الطمأنينة ولا يصل إليه أحد إلا بالاستسلام إلى الله تعالى، وعدم التدبير معه.
السادس قوله: {ارجعي إلى ربك}.
ولم يقل إلى الرب، ولا إلى الله، فيه إشارة إلى رجوعها إليه من حيث لطف ربوبيته، لا إلى قهر ألهيته، فكان ذلك تأنيسا لها وملاطفة وتكريما ومواددة.
السابع: قوله تعالى {راضية} أي عن الله في الدنيا بأحكامه، وفي الآخرة بجوده وإنعامه، فكان في ذلك تنبيه للعبد أنه لا يحصل له الرجعى إلى الله إلا مع الطمأنينة بالله، والرضا عن الله، وإلا فلا.
وفي ذلك إشارة إلى أنه لا يحصل أن يكون مرضيا عند الله في الآخرة، حتى يكون راضيا عنه في الدنيا.
فإن قلت هذه الآية تقتضي أن يكون الرضا من الله نتيجة الرضا من العبد، والآية الأخرى تدل على أن الرضا من العبد نتيجة الرضا من الله عنه؟
فاعلم أن لكل آية ما أثبتت، فلا خفاء في الجمع بين الآيتين، وذلك أن قوله تعالى: {رضي الله عنهم ورضوا عنه}.
يدل من وجود ترتيبه على أن الرضا من العبد نتيجة الرضا من الله والحقيقة تقتضي بذلك، لأنه لو لم يرض عنهم أولا، لم يرضوا عنه آخرا.
والآية الآخرة تدل: على أن من رضي عن الله في الدنيا، كان مرضيا عنه في الآخرة، وذلك بين لا إشكال فيه.
الثامن: قوله تعالى: {مرضية} وذلك مدحة عظيمة لهذه النفس المطمئنة، وهي أجل المدح والنعوت، ألم تسمع قوله تعالى: {ورضوان من الله أكبر}.. بعد أن وصف نعيم أهل الجنة أي رضوان من الله عنهم فيها أكبر من النعيم الذي هم فيه.
التاسع: قوله تعالى {فادخلي في عبادي}.
فيه بشارة عظمى للنفس المطمئنة إذ نوديت ودعيت إلى أن تدخل في عباده، وأي عباد هؤلاء؟
هم عباد التخصيص والنصر، لا عباد الملك والقهر، هم العباد الذين قال الله فيهم:
{إن عبادي ليس لك عليهم سلطان}.
وقال تعالى: {إلا عباد منهم المخلصين}.
لا العباد الآخرون الذين قال فيهم:
{إن كل من السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا}.
فكان فرح النفس المطمئنة بقوله: {فادخلي في عبادي} أشد من فرحها بقوله تعالى: {وادخلي جنتي} لأن الإضافة الأولى إليه تعالى، والإضافة الثانية إلى جنته.
العاشر: قوله تعالى: {وادخلي جنتي} فيه إشارة إلى أن هذه الأوصاف التي اتصفت بها النفس المطمئنة، هي التي أدتها إلى أن تدعى أن تدخل في عباده، وإلى أن تدخل في جنته، جنة الطاعة في الدنيا، والجنة المعلومة في الآخرة. والله اعلم.
تنبيه وإعلام: اعلم أن التدبير أكثر طريانه على العباد المتوجهين، وأهل السلوك من المريدين قبل الرسوخ في اليقين، ووجود القوة والتمكين، وذلك لأن أهل الغفلة والإساءة قد أجابوا الشيطان في الكبائر والمخالفات واتباع الشهوات، فليس للشيطان حاجة أن يدعوهم إلى التدبير، ولو دعاهم إليه لأجابوه بسرعة فليس هو أقوى أسبابه فيهم، إنما يدخل بذلك على أهل الطاعة والمتوجهين لعجزه عن أن يدخل من غير ذلك عليهم.
فرب صاحب ورد عطلة عن ورده أو عن الحضور مع الله تعالى فيه هم التدبير والفكرة في مصالح نفسه.
ورب ذي ورد استضعفه الشيطان فألقى إليه دسائس التدبير ليعكر عليه صفاء وقته، لأنه حاسد، والحاسد أشد ما يكون لك حسدا، إذا صفت لك الأوقات، وحسنت منك الحالات.
ثم إن وساوس التدبير ترد على كل أحد من حيث حاله:
فمن كان تدبيره في تحصيل كفاية يومه أو غده فعلاجه أن يعلم أن الله تعالى قد تكفل له برزقه لقوله تعالى: {وما من دابة في الأرض إلاّ على الله رزقها}.
وسيأتي بسط القول في أمر الرزق، بعد هذا في باب منفرد إن شاء الله تعالى.
ومن كان تدبيره في دفع ضرر العدو الذي لا طاقة له به، فليعلم أن الذي يخافه ناصيته بيد الحق تعالى، وأنه لا يصنع إلا ما صنعه الحق فيه، وليذكر قوله تعالى:
{ومن يتوكل على الله فهو حسبه}.
وقوله تعالى: {أليس الله بكاف عبده، ويخوفونك بالذين من دونه}.
وقوله تعالى: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل، فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله، والله ذو فضل عظيم}. وأصغ بسمع قلبك إلى قوله تعالى:
{فإذا خفت عليه فالقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني}.
ولتعلم أن الحق تعالى أولى من استجير به فأجار، لقوله تعالى:
{وهو يجير ولا يجار عليه}.
وأولى من استحفظ فحفظ لقوله تعالى: {فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين}.
وإن كان التدبير من أجل ديون حلت لا وفاء لها ولا صبر لأربابها، فاعلم أن الذي يسري عليك بلطفه من أعطاك، هو الذي ييسر بلطفه الوفاء عنك:
{هل جزاء الإحسان إلا الإحسان}.
(وأف لعبد يسكن لما في يده، ولا يسكن لما في يد الحق تعالى له، وإن كان التدبير من أجل عائلة تركتهم وراء ظهرك لا شيء يقوم بهم فاعلم أن الذي يقوم بهم بعد مماتك هو الذي يقوم بهم في حضورك وغيبتك في حياتك، واسمع ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل).
فالذي ترجوه أمامك هو الذي يرجى لما وراءك، واسمع قول بعضهم:
إن الذي وجهت وجهي له *** هو الذي خلفت في أهلي
لم يخف عنه حالهم ساعة *** وفضله أوسع من فضلي
وأن الله أرحم بهم منك، فلا تهتم بمن هو في كفالة غيرك. وان كان تدبيرك واهتمام من اجل مرض نزل بك تخاف أن تتطاول ساعات وتمتد أوقاته، فاعلم أن للبلايا والأسقام أعمارا، فكما لا يموت حيوان إلا عند انقضاء عمره، كذلك لا تنقضي بلية حتى ينقضي ميقاتها، واذكر قوله تعالى:
{فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون}.
وكان ولد لبعض المشايخ فتوفي أبوه وبقي الولد بعده فامتسكت عليه أمداد الوقت، وكان لأبيه أصحاب قد تفرقوا بالعراق، فتفكر أي أصحاب أبيه بقصد؟
ثم أجمع عزمه على أن يقصد أوجههم عند الناس، فلما قدم عليه أكرمه وأجل محله، ثم قال:
يا سيدي، وابن سيدي؟ ما الذي جاء بك؟ قال:
توقفت على أسباب الدنيا، فأريد أن تتحدث لي عند أمير البلدة، لعل أن يجعلني على جهة من جهاته فيكون فيها تمشية حالي، فاطرق الشيخ مليا، ثم رفع رأسه إليه، وقال:
ليس في قدرتي أن أجعل أول الليل سحرا، أين أنا منك إذا وليت حكم العراقين؟.
فخرج ولد ذلك الشيخ من عنده متغيظا، ولم يفهم ما قال له الرجل الصالح.
فاتفق أن طلب الخليفة، من يعلم ولده، فدل عليه، وقيل له: ولد فلان فاحضر لتعليم ولد الخليفة، فمكث يعلم ولد الخليفة مدة التعليم ويجالسه بعد ذلك حتى تكملت أربعين عاما واستخلف ولده فتوفي الخليفة الذي كان هذا معلما له فولاه حكم العراقين.
وإن كانت الفكرة لأجل زوجة أو أمة فقدتها، كانت توافقك في أحوالك، وتقوم بمهمات أشغالك، فاعلم أن الذي يسرها لك لم ينفذ فضله، وإحسانه لم ينقطع، وهو قدير على أن يهبك من منته ما يزيد حسنا ومعرفة على ما فقدت، فلا تكن من الجاهلين.
ووجوه التدبير لا تتعدد عاجلاتها، فاستقصاء وجوهها وعاجلاتها لا سبيل إليه لانتشارها، وعم انحصارها، ومتى أعطاك الله الفهم عرفك كيف تصنع.
تنبيه وإعلام
اعلم أن التدبير إنما يكون من النفس لوجود الحجاب فيها، ولو سلم القلب من مجاورتها، وصين من محادثتها، لم تطرقه طوارق التدبير.
وسمعت شيخنا أبا العباس المرسي رضي الله عنه يقول:
(إن الله سبحانه وتعالى، لما خلق الأرض على الماء، اضطربت فأرساها بالجبال، فقال: {والجبال أرساها}.
(كذلك لما خلق النفس اضطربت فأرساها بجبال العقل).
انتهى كلام الشيخ أبي العباس رضي الله عنه.
فأي عبد توفر عقله، واتسع نوره تنزلت عليه السكينة من ربه، فسكنت في نفسه عن الاضطراب، ووثقت بولي الأسباب فكانت مطمئنة، أي خامدة ساكنة لأحكام الله، ثابتة لأقداره، ممدودة بتأييده وأنواره، خارجة عن التدبير والمنازعة، مسلمة لمولاها بأنه يراها:
{أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد}.
فاستحقت أنه يقال لها:
{يا أيتها النفس المطمئنة، ارجعي إلى ربك راضية مرضية، فادخلي في عبادي وادخلي جنتي}.
وفي هذه الآية خصائص عظيمة، ومناقب لهذه النفس المطمئنة جسمية منها: أن النفوس ثلاثة:
أمارة - ولوامة - ومطمئنة.
فلم يواجه الحق سبحانه وتعالى واحدة، من الأنفس الثلاث إلا المطمئنة، فقال في الأمارة:
{إن النفس لأمارة بالسوء}.
وفي اللوامة: {ولا اقسم بالنفس اللوامة}.
واقبل على هذه بالخطاب فقال: {يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي}.
الثاني: تكنيته إياها، والتكنية في لغة العرب تجليل في الخطاب، وفخر عند أولى الألباب:
الثالث: مدحه إياها بالطمأنينة ثناء منه عليها بالاستسلام إليه، والتوكل عليه.
الرابع: وصفة هذه النفس بالطمأنينة، والمطمئن هو المنخفض من الأرض، فإذا انخفضت بتواضعها وانكسارها، أثنى عليها مولاها إظهارا لفخرها لقوله صلى الله عليه وسلم:
(من تواضع لله رفعه الله).
الخامس: قوله تعالى: {ارجعي إلى ربك راضية مرضية}.
فيه إشارة إلى انه لا يؤذن للنفس الأمارة، واللوامة بالرجوع إلى الله تعالى رجوع الكرامة، بل إنما ذلك للنفس المطمئنة لأجل ما هي عليه من الطمأنينة قيل لها:
{ارجعي إلى ربك راضية مرضية}.
فقد أبحنا لك الدخول إلى حضرتنا، والخلود في جنتنا، فكان في ذلك تحريض للعبد على مقام الطمأنينة ولا يصل إليه أحد إلا بالاستسلام إلى الله تعالى، وعدم التدبير معه.
السادس قوله: {ارجعي إلى ربك}.
ولم يقل إلى الرب، ولا إلى الله، فيه إشارة إلى رجوعها إليه من حيث لطف ربوبيته، لا إلى قهر ألهيته، فكان ذلك تأنيسا لها وملاطفة وتكريما ومواددة.
السابع: قوله تعالى {راضية} أي عن الله في الدنيا بأحكامه، وفي الآخرة بجوده وإنعامه، فكان في ذلك تنبيه للعبد أنه لا يحصل له الرجعى إلى الله إلا مع الطمأنينة بالله، والرضا عن الله، وإلا فلا.
وفي ذلك إشارة إلى أنه لا يحصل أن يكون مرضيا عند الله في الآخرة، حتى يكون راضيا عنه في الدنيا.
فإن قلت هذه الآية تقتضي أن يكون الرضا من الله نتيجة الرضا من العبد، والآية الأخرى تدل على أن الرضا من العبد نتيجة الرضا من الله عنه؟
فاعلم أن لكل آية ما أثبتت، فلا خفاء في الجمع بين الآيتين، وذلك أن قوله تعالى: {رضي الله عنهم ورضوا عنه}.
يدل من وجود ترتيبه على أن الرضا من العبد نتيجة الرضا من الله والحقيقة تقتضي بذلك، لأنه لو لم يرض عنهم أولا، لم يرضوا عنه آخرا.
والآية الآخرة تدل: على أن من رضي عن الله في الدنيا، كان مرضيا عنه في الآخرة، وذلك بين لا إشكال فيه.
الثامن: قوله تعالى: {مرضية} وذلك مدحة عظيمة لهذه النفس المطمئنة، وهي أجل المدح والنعوت، ألم تسمع قوله تعالى: {ورضوان من الله أكبر}.. بعد أن وصف نعيم أهل الجنة أي رضوان من الله عنهم فيها أكبر من النعيم الذي هم فيه.
التاسع: قوله تعالى {فادخلي في عبادي}.
فيه بشارة عظمى للنفس المطمئنة إذ نوديت ودعيت إلى أن تدخل في عباده، وأي عباد هؤلاء؟
هم عباد التخصيص والنصر، لا عباد الملك والقهر، هم العباد الذين قال الله فيهم:
{إن عبادي ليس لك عليهم سلطان}.
وقال تعالى: {إلا عباد منهم المخلصين}.
لا العباد الآخرون الذين قال فيهم:
{إن كل من السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا}.
فكان فرح النفس المطمئنة بقوله: {فادخلي في عبادي} أشد من فرحها بقوله تعالى: {وادخلي جنتي} لأن الإضافة الأولى إليه تعالى، والإضافة الثانية إلى جنته.
العاشر: قوله تعالى: {وادخلي جنتي} فيه إشارة إلى أن هذه الأوصاف التي اتصفت بها النفس المطمئنة، هي التي أدتها إلى أن تدعى أن تدخل في عباده، وإلى أن تدخل في جنته، جنة الطاعة في الدنيا، والجنة المعلومة في الآخرة. والله اعلم.
_________________
مواضيع مماثلة
» أقسام التدبير
» هدم قواعد التدبير
» سر خلق التدبير والاختيار
» التدبير في شأن الرزق
» التدبير والاختيار
» هدم قواعد التدبير
» سر خلق التدبير والاختيار
» التدبير في شأن الرزق
» التدبير والاختيار
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى