الناس على قسمين
صفحة 1 من اصل 1
الناس على قسمين
الناس على قسمين
فالناس إذن على قسمين: عبد طلب الدنيا للدنيا، وعبد طلب الدنيا للآخرة.
وسمعت شيخنا أبا العباس رحمه الله يقول:
(العارف لا دنيا له، لأن دنياه لآخرته، وآخرته لربه).
وعلى ذلك تحمل أحوال الصحابة، والسلف الصالحين رضي الله فكل ما دخلوا فيه من أسباب الدنيا، فهم بذلك إلى الله متقربون والى رضاه مسببون لا قاصدون بذلك الدنيا وزينتها، ووجود لذتها وبذلك وصفهم الحق سبحانه وتعالى بقوله: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار، رحماء بينهم، تراهم ركعا سجدا، يبتغون فضلا من الله ورضوانا، سيماهم في وجوههم من أثر السجود}.
وقال في الآية الأخرى: {في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والإبصار}.
وبقوله تعالى: {رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا}.
ونظائر هذه الآيات، وما ظنك بقوم اختارهم الله لصحبة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولمواجهة خطابه في تنزيله، فما أحد من المؤمنين إلى يوم القيامة إلا وللصحابة في عنقه منن لا تحصى، وأياد لا تنسى لأنهم الذين حملوا إلينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، الحكمة والأحكام، وبينوا الحلال والحرام، وفهموا الخاص والعام، وفتحوا الأقاليم والبلاد، وقهروا أهل الشرك والعناد.
وبحق ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم).
وقد وصفهم في الآية الأولى بأوصاف إلى أن قال: (يبتغون فضلا من الله ورضوانا).
فقد أخبر سبحانه وهو المطلع على أسرارهم، العالم بهم في سرهم واجهاهم، أنهم ما ابتغوا بما حاولوه الدنيا، ولم يقصدوا بذلك إلا وجه الله الكريم، وفضله العميم، وقد قال سبحانه وتعالى فيهم: {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه}.
فقد أخبر سبحانه أنهم لا يريدون سواه ولا يقصدون إلا إياه وقال في الآية الأخرى: {يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله}.
إشارة إلى انه قد طهر أسرارهم، وكمل أنوارهم، فلذلك لا تأخذ الدنيا قلوبهم، ولا تخدش وجه إيمانهم وكيف تأخذ الدنيا من قلوب ملأها بحبه، وأشرق فيها أنوار قربه، وقد قال سبحانه وتعالى: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان}.
فلو كان للدنيا على قلوبهم سلطان لكان الشيطان على قلوبهم أيضا، إذ لا يمكن الشيطان أن يصل إلى قلوب أشرقت فيها أنوار الزهد، وكنست من أوساخ الرغبة.
فقوله سبحانه وتعالى: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان} أي ليس لك ولا لشيء من الأكوان على قلوبهم سلطان لأن سلطان عظمتي في قلوبهم يمنعهم أن يكون على قلوبهم سلطان لشيء دوني.
فأثبت الحق سبحانه وتعالى لهم في هذه الآية: أنهم لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، ولم ينف عنهم أنهم لا يتجرون ولا يبيعون، بل في الآية ما يدل على جواز البيع والتجارة، من فحوى الخطاب إذا تدبرته، تدبر أولي الألباب. ألم تسمع قوله تعالى: {وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة}.
فلو نهاهم عن الغني، لنهاهم عن التسبب المؤدى إليه وهو التجارة والبيع، إلا ترى انه قال: {وإيتاء الزكاة}.
فإيجابه الزكاة عليهم دليلا على أن هؤلاء الرجال التي هذه الأوصاف أوصافهم، قد يكون منهم أغنياء ولا يخرجهم عن المدحة غناهم، إذا قاموا فيه بحقوق مولاهم.
قال عبد الله بن عتبة كان لعثمان بن عفان رضي الله عنه يوم قتل عند خازنه مائة ألف وخمسون ألف دينار، وألف ألف درهم، وخلف ضياعا بين أريس وخيبر، ووادي القرى، قيمته مائتا ألف دينار.
وبلغ ثمن مال الزبير رضي الله عنه خمسين ألف دينار، وترك ألف فرس وألف مملوك.
وخلف عمر بن العاص رضي الله عنه ثلاثمائة ألف دينار.
وغنى عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، أشهر من أن يذكر.
وكانت الدنيا في أكفهم لا في قلوبهم، صبروا عنها حين فقدت وشكروا الله حين وجدت.
وإنما ابتلاهم الحق سبحانه وتعالى بالفاقة في أول أمرهم حتى تكملت أنوارهم، وتطهرت أسرارهم، فبذلها لأنهم لو أعطوها قبل ذلك، فلعلها كانت آخذة منهم، فإذا أعطوها بعد التمكين والرسوخ في اليقين تصرفوا فيها تصرف الخازن الأمين، وامتثلوا قوله تعالى: {وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه}.
ومن ها هنا يفهم منعهم عن الجهاد في أول الأمر بقوله تعالى: {فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره}.
لأنه لو أبيح لهم الجهاد في أول الإسلام، فعل الذي هو حديث عهد بالإسلام لو أطلق لهم الجهاد أن يكون انتصاره لنفسه من حيث لا يشعر، حتى كان علي رضي الله عنه، إذا ضرب أمهل، حتى تبرد تلك الضربة، ثم يضرب ذلك خشية أن يضرب عقبها، فيكون في ذلك مشاركة من حظه، وذلك لمعرفته رضي الله عنه دسائس النفوس وكمائنها وعظيم حراستهم لقلوبهم، وتخليص أعمالهم وإشفاقهم أن يكون في عملهم شيء لم يرد به وجه الله تعالى.
فكانت الدنيا في أيدي الصحابة رضي الله عنهم، لا في قلوبهم ويدل على ذلك خروجهم عنها، وإيثارهم بها وهم الذين قال الحق فيهم: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة}.
حتى أنهم أهدى لإنسان منهم رأس شاة فقال: (فلان أحق بها مني) ثم قال الآخذ لها كذلك، فما زالوا يتهادونها إلى أن عادت إلى الذي أهداها أولا بعد أن طافت على سبعة أو نحوهم.
ويكفيك في ذلك: خروج عمر رضي الله عنه، عن نصف ماله، وخروج أبي بكر الصديق رضي الله عنه، عن ماله كله، وخروج عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه عن سبعمائة بعير موقرة الأحمال، وتجهيز عثمان رضي الله عنه جيش العسرة إلى غير ذلك من حسن أفعالهم، وسني أحوالهم.
وتضمنت الآية الأخرى وهي قوله سبحانه وتعالى: {رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلا}. الأخبار عنهم بسر الصدق الذي لا يطلع عليه أحد إلا الحق سبحانه وتعالى، وذلك ثناء عظيم وفخر جسيم، لأن ظواهر الأفعال قد تلبس فيها الأحوال فيما يرجع إلى علم العباد.
فتضمنت الآيات، التزكية لظواهرهم وسرائرهم، وإثبات محامدهم ومفاخرهم، فقد تبين من هذا: أن تدبير الدنيا على قسمين:
تدبير الدنيا للدنيا، كما هو حال أهل القطيعة الغافلين.
وتدبير الدنيا للآخرة، كحال الصحابة المكرمين، والسلف الصالحين.
ويدلك على ذلك قول عمر رضي الله عنه: إني لأجهز الجيش وأنا في صلاتي.
لأن تدبير عمر رضي الله عنه على المعاينة والمواجهة فهو إذا تدبير لله فلذلك لم يكن قاطعا صلاته ولا منقصا من كمالها.
فإن قلت: قد زعمت أن ليس منهم من يريد الدنيا وأنزل الحق سبحانه وتعالى في شأنهم يوم واحد: {منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة}، حتى قال بعض الصحابة رضي الله عنهم:
(ما كنا نظن أن أحد منا يريد الدنيا حتى نزل قوله تعالى: {منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة}.
فاعلم وفقك الله للفهم عنه، وجعلك من أهل الاستماع منه، أنه يجب على كل مؤمن، أن يظن بالصحابة الظن الجميل، وأن يعتقد فيهم الاعتقاد الفضيل، وأن يلتمس لهم أحسن المخارج في أقوالهم وأفعالهم، وجميع أحوالهم في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد وفاته، لأن الحق سبحانه وتعالى لما زكاهم تزكية مطلقة لم يقيدها بزمن دون زمن، وكذلك تزكية رسول الله عليه الصلاة والسلام لهم بقوله: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم).
وعن هذه الآية جوابان: أحدهما:
منكم من يريد الدنيا للآخرة، كالذين أرادوا الغنيمة ليعاملوا الله بما يأخذونه منها، بذلا وإيثارا ومنكم من لم يكن ذلك مراده إنما كان مراده تحصيل فضل الجهاد لا غير، فلم يلو على الغنائم، ولم يعط يلتفت إليها.
فمنهم الفاضل، ومنهم الأفضل، ومنهم الكامل، ومنهم الأكمل.
الجواب الثاني: أن السيد يقول لعبده ما شاء وعلينا أن نتأدب مع عبده لثبوت نسبته منه، فليس كلما خاطب السيد به عبده ينبغي أن ننسبه للعبد، ولو أن تخاطبه به، إذ للسيد أن يقول لعبده ما شاء تحريضا لعبده، وتنشيطا لهمته وقصده، وعلينا أن نلزم حدود الأدب معه. وإن تصفحت الكتاب العزيز وجدت فيه كثيرا، منها: سورة عبس، حتى قالت عائشة رضي الله عنها:
(لو كان رسول الله عليه الصلاة والسلام، كاتما شيئا من الوحي لكتم هذه السورة).
فقد تقرر من هذا أنه ليس إسقاط التدبير الممدوح: ترك الدخول في أسباب الدنيا، والفكرة في مصالحها ليستعين بذلك على طاعة مولاه والعمل لأخراه، وإنما التدبير المنهي عنه، هو التدبير فيها لها. وعلامة ذلك: أن يعصي الله تعالى من أجلها، وأن يأخذها كيف كان من حلها، أو غير حلها.
فالناس إذن على قسمين: عبد طلب الدنيا للدنيا، وعبد طلب الدنيا للآخرة.
وسمعت شيخنا أبا العباس رحمه الله يقول:
(العارف لا دنيا له، لأن دنياه لآخرته، وآخرته لربه).
وعلى ذلك تحمل أحوال الصحابة، والسلف الصالحين رضي الله فكل ما دخلوا فيه من أسباب الدنيا، فهم بذلك إلى الله متقربون والى رضاه مسببون لا قاصدون بذلك الدنيا وزينتها، ووجود لذتها وبذلك وصفهم الحق سبحانه وتعالى بقوله: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار، رحماء بينهم، تراهم ركعا سجدا، يبتغون فضلا من الله ورضوانا، سيماهم في وجوههم من أثر السجود}.
وقال في الآية الأخرى: {في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والإبصار}.
وبقوله تعالى: {رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا}.
ونظائر هذه الآيات، وما ظنك بقوم اختارهم الله لصحبة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولمواجهة خطابه في تنزيله، فما أحد من المؤمنين إلى يوم القيامة إلا وللصحابة في عنقه منن لا تحصى، وأياد لا تنسى لأنهم الذين حملوا إلينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، الحكمة والأحكام، وبينوا الحلال والحرام، وفهموا الخاص والعام، وفتحوا الأقاليم والبلاد، وقهروا أهل الشرك والعناد.
وبحق ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم).
وقد وصفهم في الآية الأولى بأوصاف إلى أن قال: (يبتغون فضلا من الله ورضوانا).
فقد أخبر سبحانه وهو المطلع على أسرارهم، العالم بهم في سرهم واجهاهم، أنهم ما ابتغوا بما حاولوه الدنيا، ولم يقصدوا بذلك إلا وجه الله الكريم، وفضله العميم، وقد قال سبحانه وتعالى فيهم: {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه}.
فقد أخبر سبحانه أنهم لا يريدون سواه ولا يقصدون إلا إياه وقال في الآية الأخرى: {يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله}.
إشارة إلى انه قد طهر أسرارهم، وكمل أنوارهم، فلذلك لا تأخذ الدنيا قلوبهم، ولا تخدش وجه إيمانهم وكيف تأخذ الدنيا من قلوب ملأها بحبه، وأشرق فيها أنوار قربه، وقد قال سبحانه وتعالى: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان}.
فلو كان للدنيا على قلوبهم سلطان لكان الشيطان على قلوبهم أيضا، إذ لا يمكن الشيطان أن يصل إلى قلوب أشرقت فيها أنوار الزهد، وكنست من أوساخ الرغبة.
فقوله سبحانه وتعالى: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان} أي ليس لك ولا لشيء من الأكوان على قلوبهم سلطان لأن سلطان عظمتي في قلوبهم يمنعهم أن يكون على قلوبهم سلطان لشيء دوني.
فأثبت الحق سبحانه وتعالى لهم في هذه الآية: أنهم لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، ولم ينف عنهم أنهم لا يتجرون ولا يبيعون، بل في الآية ما يدل على جواز البيع والتجارة، من فحوى الخطاب إذا تدبرته، تدبر أولي الألباب. ألم تسمع قوله تعالى: {وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة}.
فلو نهاهم عن الغني، لنهاهم عن التسبب المؤدى إليه وهو التجارة والبيع، إلا ترى انه قال: {وإيتاء الزكاة}.
فإيجابه الزكاة عليهم دليلا على أن هؤلاء الرجال التي هذه الأوصاف أوصافهم، قد يكون منهم أغنياء ولا يخرجهم عن المدحة غناهم، إذا قاموا فيه بحقوق مولاهم.
قال عبد الله بن عتبة كان لعثمان بن عفان رضي الله عنه يوم قتل عند خازنه مائة ألف وخمسون ألف دينار، وألف ألف درهم، وخلف ضياعا بين أريس وخيبر، ووادي القرى، قيمته مائتا ألف دينار.
وبلغ ثمن مال الزبير رضي الله عنه خمسين ألف دينار، وترك ألف فرس وألف مملوك.
وخلف عمر بن العاص رضي الله عنه ثلاثمائة ألف دينار.
وغنى عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، أشهر من أن يذكر.
وكانت الدنيا في أكفهم لا في قلوبهم، صبروا عنها حين فقدت وشكروا الله حين وجدت.
وإنما ابتلاهم الحق سبحانه وتعالى بالفاقة في أول أمرهم حتى تكملت أنوارهم، وتطهرت أسرارهم، فبذلها لأنهم لو أعطوها قبل ذلك، فلعلها كانت آخذة منهم، فإذا أعطوها بعد التمكين والرسوخ في اليقين تصرفوا فيها تصرف الخازن الأمين، وامتثلوا قوله تعالى: {وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه}.
ومن ها هنا يفهم منعهم عن الجهاد في أول الأمر بقوله تعالى: {فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره}.
لأنه لو أبيح لهم الجهاد في أول الإسلام، فعل الذي هو حديث عهد بالإسلام لو أطلق لهم الجهاد أن يكون انتصاره لنفسه من حيث لا يشعر، حتى كان علي رضي الله عنه، إذا ضرب أمهل، حتى تبرد تلك الضربة، ثم يضرب ذلك خشية أن يضرب عقبها، فيكون في ذلك مشاركة من حظه، وذلك لمعرفته رضي الله عنه دسائس النفوس وكمائنها وعظيم حراستهم لقلوبهم، وتخليص أعمالهم وإشفاقهم أن يكون في عملهم شيء لم يرد به وجه الله تعالى.
فكانت الدنيا في أيدي الصحابة رضي الله عنهم، لا في قلوبهم ويدل على ذلك خروجهم عنها، وإيثارهم بها وهم الذين قال الحق فيهم: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة}.
حتى أنهم أهدى لإنسان منهم رأس شاة فقال: (فلان أحق بها مني) ثم قال الآخذ لها كذلك، فما زالوا يتهادونها إلى أن عادت إلى الذي أهداها أولا بعد أن طافت على سبعة أو نحوهم.
ويكفيك في ذلك: خروج عمر رضي الله عنه، عن نصف ماله، وخروج أبي بكر الصديق رضي الله عنه، عن ماله كله، وخروج عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه عن سبعمائة بعير موقرة الأحمال، وتجهيز عثمان رضي الله عنه جيش العسرة إلى غير ذلك من حسن أفعالهم، وسني أحوالهم.
وتضمنت الآية الأخرى وهي قوله سبحانه وتعالى: {رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلا}. الأخبار عنهم بسر الصدق الذي لا يطلع عليه أحد إلا الحق سبحانه وتعالى، وذلك ثناء عظيم وفخر جسيم، لأن ظواهر الأفعال قد تلبس فيها الأحوال فيما يرجع إلى علم العباد.
فتضمنت الآيات، التزكية لظواهرهم وسرائرهم، وإثبات محامدهم ومفاخرهم، فقد تبين من هذا: أن تدبير الدنيا على قسمين:
تدبير الدنيا للدنيا، كما هو حال أهل القطيعة الغافلين.
وتدبير الدنيا للآخرة، كحال الصحابة المكرمين، والسلف الصالحين.
ويدلك على ذلك قول عمر رضي الله عنه: إني لأجهز الجيش وأنا في صلاتي.
لأن تدبير عمر رضي الله عنه على المعاينة والمواجهة فهو إذا تدبير لله فلذلك لم يكن قاطعا صلاته ولا منقصا من كمالها.
فإن قلت: قد زعمت أن ليس منهم من يريد الدنيا وأنزل الحق سبحانه وتعالى في شأنهم يوم واحد: {منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة}، حتى قال بعض الصحابة رضي الله عنهم:
(ما كنا نظن أن أحد منا يريد الدنيا حتى نزل قوله تعالى: {منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة}.
فاعلم وفقك الله للفهم عنه، وجعلك من أهل الاستماع منه، أنه يجب على كل مؤمن، أن يظن بالصحابة الظن الجميل، وأن يعتقد فيهم الاعتقاد الفضيل، وأن يلتمس لهم أحسن المخارج في أقوالهم وأفعالهم، وجميع أحوالهم في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد وفاته، لأن الحق سبحانه وتعالى لما زكاهم تزكية مطلقة لم يقيدها بزمن دون زمن، وكذلك تزكية رسول الله عليه الصلاة والسلام لهم بقوله: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم).
وعن هذه الآية جوابان: أحدهما:
منكم من يريد الدنيا للآخرة، كالذين أرادوا الغنيمة ليعاملوا الله بما يأخذونه منها، بذلا وإيثارا ومنكم من لم يكن ذلك مراده إنما كان مراده تحصيل فضل الجهاد لا غير، فلم يلو على الغنائم، ولم يعط يلتفت إليها.
فمنهم الفاضل، ومنهم الأفضل، ومنهم الكامل، ومنهم الأكمل.
الجواب الثاني: أن السيد يقول لعبده ما شاء وعلينا أن نتأدب مع عبده لثبوت نسبته منه، فليس كلما خاطب السيد به عبده ينبغي أن ننسبه للعبد، ولو أن تخاطبه به، إذ للسيد أن يقول لعبده ما شاء تحريضا لعبده، وتنشيطا لهمته وقصده، وعلينا أن نلزم حدود الأدب معه. وإن تصفحت الكتاب العزيز وجدت فيه كثيرا، منها: سورة عبس، حتى قالت عائشة رضي الله عنها:
(لو كان رسول الله عليه الصلاة والسلام، كاتما شيئا من الوحي لكتم هذه السورة).
فقد تقرر من هذا أنه ليس إسقاط التدبير الممدوح: ترك الدخول في أسباب الدنيا، والفكرة في مصالحها ليستعين بذلك على طاعة مولاه والعمل لأخراه، وإنما التدبير المنهي عنه، هو التدبير فيها لها. وعلامة ذلك: أن يعصي الله تعالى من أجلها، وأن يأخذها كيف كان من حلها، أو غير حلها.
_________________
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى