الموقنون العابدون
صفحة 1 من اصل 1
الموقنون العابدون
الموقنون العابدون
أعلم وفقك الله أن لله عبادا خرجوا عن التدبير مع الله بتأديبه الذي أدبهم، وبتعليمه لذي علمهم، ففسخت الأنوار عزائم تدبيرهم، ودت المعارف والأسرار جبال اختيارهم فنزلوا منزل الرضا، فوجدوا نعيم المقام، فاستغاثوا بالله، واستصرخوا به، خشية أن يشغلهم حلاوة الرضا فيميلوا إليها بمساكنة، أو يجنحوا لها بمراكنة.
قال الشيخ أبو الحسن رحمه الله تعالى:
كنت في ابتداء أمري، أدبر مع أصنع من الطاعات وأنواع الموافقات، فتارة أقول: ألزم البراري والقفار وتارة أقول: ارجع إلى المدائن والديار لصحبة العلماء والأخيار.
فوصف لي ولي من أولياء الله بأرض المغرب بجبل هنالك، فطلعت إليه، فوصلت إليه ليلا، فكرهت أن أدخل عليه حينئذ، فسمعته يقول: (اللهم إن قوما سألوك أن تسخر لهم خلقك فأعطيتهم ذلك، فرضوا منك بذلك.
اللهم وإني أسألك اعوجاج الخلق علي حتى لا يكون ملجئ إلا إليك.
فقلت: يا نفس انظري من أي بحر يغترف هذا الشيخ؟
فأقمت حتى إذا كان الصباح دخلت عليه، فسلمت عليه، ثم قلت: يا سيدي كيف حالك؟ فقال:
أشكو إلى الله من برد الرضا والتسليم، كما تشكوا أنت من حر التدبير والاختيار.
فقلت: يا سيدي أما شكواي من حر التدبير والاختيار، فقد ذقته، وأنا الآن فيه وأما شكواك من برد الرضا والتسليم، فلم أفهمه.
فقال: (أخاف أن تشغلني حلاوتهما عن الله).
فقلت: يا سيدي سمعتك البارحة تقول: اللهم إن قوما سألوك أن تسخر لهم خلقك فأعطيتهم ذلك فرضوا منك بذلك، اللهم وإني أسألك اعوجاج الخلق حتى لا يكون ملجئ إلا إليك.
فتبسم ثم قال: يا بني، عوض ما تقول: سخر لي خلقك، قل: يا رب كن لي، أترى إذا كانوا لك، أيغنوك بشيء؟ فما هذا الجبن.
فائدة: اعلم إن هلاك ابن نوح عليه السلام إنما كان لأجل رجوعه إلى تدبير نفسه، وعدم رضاه بتدبيره الله، الذي اختاره لنوح عليه السلام، ومن كان معه في السفينة، فقال له نوح عليه السلام: {يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين.
قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء.
قال: لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم}.
فآوي في المعنى إلى جبل عقله، ثم كان الجبل الذي اعتصم به صورة ذلك في المعنى القائم به، فكان كما قال الله تعالى:
{وحال بينهما الموج فكان من المغرقين}.
في الظاهر بالطوفان، وفي الباطن بالحرمان، فاعتبر أيها العبد بذلك.
فإذا تلاطمت عليك أمواج الأقدار، فلا ترجع إلى جبل عقلك الباطل لئلا تكون من المغرقين في بحر القطيعة ولكن ارجع إلى سفينة الاعتصام بالله، والتوكل عليه.
{ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم}.
{ومن يتوكل على الله فهو حسبه}.
فإنك إذا فعلت ذلك استوت بك سفينة النجاة على جودي الأمن، ثم تهبط بسلامة القربة، وبركات الوصلة عليك، وعلى أمم ممن معك وهو عوالم وجودك، فافهم ذلك ولا تكن من الغافلين، واعبد ربك ولا تكن من الجاهلين.
فقد علمت أن إسقاط التدبير والاختيار، أهم ما يلتزمه الموقنون، ويطلبه العابدون، وأشرف ما يتحلى به العارفون.
سألت بعض العارفين ونحن تجاه الكعبة، فقلت له: من أي الناحيتين يكون رجوعك؟ فقال:
(لي مع الله عادة أن لا تجاوز إرادتي قدمي).
وقال بعض المشايخ: (لو دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، وبقيت أنا ولم يقع عندي تمييز في أي الدارين يكون قراري).
فهذا حال عبد محيت اختياراته وإرادته، فلم يبق له مع الله مراد إلا ما أراد كما قال السلف.
(أصبحت وهواي في موقع قدر الله).
قال أبو حفص الحداد رحمه الله تعالى: (لي منذ أربعين سنة ما أقامني الله في حال فكرهته ولا نقلني إلى غيره فسخطته).
وقال بعضهم: (لي منذ أربعين سنة أشتهي، أن لا أشتهي لأترك ما أشتهي فلا أجد ما أشتهي).
فهذه قلوب تولى الله رعايتها، وأوجب حمايتها، ألم تسمع قوله تعالى:
{إن عبادي ليس لك عليهم سلطان}.
لأن تحققهم بمقام العبودية أبى لهم الاختيار مع الربوبية، وأن يقارفوا ذنبا، وأن يلابسوا عيبا.
وقال سبحانه وتعالى: {إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون}.
فقلوب ليس للشيطان عليها سلطان، من أين يطرقها وساوس التدبير؟ أو يرد عليها وجود التكدير؟
وفي الآية بيان أن من صحح الإيمان بالله، والتوكل على الله، فلا سلطان للشيطان عليه، لأن الشيطان إنما يأتيك من أحد وجهين:
إما بتشكيك في الاعتقاد، وإما بركون إلى الخلق والاعتماد فأما التشكيك في الاعتقاد: فالإيمان ينفيه وأما السكون إلى الخلق والاعتماد عليهم فالتوكل عليه ينقيه.
أعلم وفقك الله أن لله عبادا خرجوا عن التدبير مع الله بتأديبه الذي أدبهم، وبتعليمه لذي علمهم، ففسخت الأنوار عزائم تدبيرهم، ودت المعارف والأسرار جبال اختيارهم فنزلوا منزل الرضا، فوجدوا نعيم المقام، فاستغاثوا بالله، واستصرخوا به، خشية أن يشغلهم حلاوة الرضا فيميلوا إليها بمساكنة، أو يجنحوا لها بمراكنة.
قال الشيخ أبو الحسن رحمه الله تعالى:
كنت في ابتداء أمري، أدبر مع أصنع من الطاعات وأنواع الموافقات، فتارة أقول: ألزم البراري والقفار وتارة أقول: ارجع إلى المدائن والديار لصحبة العلماء والأخيار.
فوصف لي ولي من أولياء الله بأرض المغرب بجبل هنالك، فطلعت إليه، فوصلت إليه ليلا، فكرهت أن أدخل عليه حينئذ، فسمعته يقول: (اللهم إن قوما سألوك أن تسخر لهم خلقك فأعطيتهم ذلك، فرضوا منك بذلك.
اللهم وإني أسألك اعوجاج الخلق علي حتى لا يكون ملجئ إلا إليك.
فقلت: يا نفس انظري من أي بحر يغترف هذا الشيخ؟
فأقمت حتى إذا كان الصباح دخلت عليه، فسلمت عليه، ثم قلت: يا سيدي كيف حالك؟ فقال:
أشكو إلى الله من برد الرضا والتسليم، كما تشكوا أنت من حر التدبير والاختيار.
فقلت: يا سيدي أما شكواي من حر التدبير والاختيار، فقد ذقته، وأنا الآن فيه وأما شكواك من برد الرضا والتسليم، فلم أفهمه.
فقال: (أخاف أن تشغلني حلاوتهما عن الله).
فقلت: يا سيدي سمعتك البارحة تقول: اللهم إن قوما سألوك أن تسخر لهم خلقك فأعطيتهم ذلك فرضوا منك بذلك، اللهم وإني أسألك اعوجاج الخلق حتى لا يكون ملجئ إلا إليك.
فتبسم ثم قال: يا بني، عوض ما تقول: سخر لي خلقك، قل: يا رب كن لي، أترى إذا كانوا لك، أيغنوك بشيء؟ فما هذا الجبن.
فائدة: اعلم إن هلاك ابن نوح عليه السلام إنما كان لأجل رجوعه إلى تدبير نفسه، وعدم رضاه بتدبيره الله، الذي اختاره لنوح عليه السلام، ومن كان معه في السفينة، فقال له نوح عليه السلام: {يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين.
قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء.
قال: لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم}.
فآوي في المعنى إلى جبل عقله، ثم كان الجبل الذي اعتصم به صورة ذلك في المعنى القائم به، فكان كما قال الله تعالى:
{وحال بينهما الموج فكان من المغرقين}.
في الظاهر بالطوفان، وفي الباطن بالحرمان، فاعتبر أيها العبد بذلك.
فإذا تلاطمت عليك أمواج الأقدار، فلا ترجع إلى جبل عقلك الباطل لئلا تكون من المغرقين في بحر القطيعة ولكن ارجع إلى سفينة الاعتصام بالله، والتوكل عليه.
{ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم}.
{ومن يتوكل على الله فهو حسبه}.
فإنك إذا فعلت ذلك استوت بك سفينة النجاة على جودي الأمن، ثم تهبط بسلامة القربة، وبركات الوصلة عليك، وعلى أمم ممن معك وهو عوالم وجودك، فافهم ذلك ولا تكن من الغافلين، واعبد ربك ولا تكن من الجاهلين.
فقد علمت أن إسقاط التدبير والاختيار، أهم ما يلتزمه الموقنون، ويطلبه العابدون، وأشرف ما يتحلى به العارفون.
سألت بعض العارفين ونحن تجاه الكعبة، فقلت له: من أي الناحيتين يكون رجوعك؟ فقال:
(لي مع الله عادة أن لا تجاوز إرادتي قدمي).
وقال بعض المشايخ: (لو دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، وبقيت أنا ولم يقع عندي تمييز في أي الدارين يكون قراري).
فهذا حال عبد محيت اختياراته وإرادته، فلم يبق له مع الله مراد إلا ما أراد كما قال السلف.
(أصبحت وهواي في موقع قدر الله).
قال أبو حفص الحداد رحمه الله تعالى: (لي منذ أربعين سنة ما أقامني الله في حال فكرهته ولا نقلني إلى غيره فسخطته).
وقال بعضهم: (لي منذ أربعين سنة أشتهي، أن لا أشتهي لأترك ما أشتهي فلا أجد ما أشتهي).
فهذه قلوب تولى الله رعايتها، وأوجب حمايتها، ألم تسمع قوله تعالى:
{إن عبادي ليس لك عليهم سلطان}.
لأن تحققهم بمقام العبودية أبى لهم الاختيار مع الربوبية، وأن يقارفوا ذنبا، وأن يلابسوا عيبا.
وقال سبحانه وتعالى: {إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون}.
فقلوب ليس للشيطان عليها سلطان، من أين يطرقها وساوس التدبير؟ أو يرد عليها وجود التكدير؟
وفي الآية بيان أن من صحح الإيمان بالله، والتوكل على الله، فلا سلطان للشيطان عليه، لأن الشيطان إنما يأتيك من أحد وجهين:
إما بتشكيك في الاعتقاد، وإما بركون إلى الخلق والاعتماد فأما التشكيك في الاعتقاد: فالإيمان ينفيه وأما السكون إلى الخلق والاعتماد عليهم فالتوكل عليه ينقيه.
_________________
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى