تقوية الحق لعبده فيما يورده عليه
صفحة 1 من اصل 1
تقوية الحق لعبده فيما يورده عليه
تقوية الحق لعبده فيما يورده عليه
فائدة: اعلم أن الحق سبحانه، إذا أراد أن يقوّي عبدا على ما يريد أن يورده عليه من وجود حكمه، ألبسه من أنوار وصفه، وكساه من وجود نعته، فتنزلت الأقدار وقد سبقت إليها الأنوار، فكان بربه لا بنفسه، فقوي لأعبائها، وصبر للأوائها.
وإنما يعينهم على حمل الأقدار، ورود الأنوار. وإن شئت قلت: وإنما يعينهم على حمل الأحكام، فتح باب الأفهام. وإن شئت قلت: وإنما يعينهم على حمل البلايا، واردات العطايا. وإن شئت قلت: وإنما يقويهم على حمل أقداره، شهود حسن اختياره. وإن شئت قلت: وإنما يصبّرهم على وجود حكمه، علمهم بوجود علمه. وإن شئت قلت: وإنما صبّرهم على ما جرى، علمهم بأنه يرى. وإن شئت قلت: وإنما يصبّرهم على أفعاله، ظهوره عليهم بوجود جماله. وإن شئت قلت: وإنما صبّرهم على القضا، علمهم بأن الصبر يورث الرضا. وإن شئت قلت: وإنما صبّرهم على الأقدار، كشف الحجب والأسفار. وإن شئت قلت: وإنما قواهم على حمل أثقال التكليف، ورود أسرار التصريف. وإن شئت قلت: وإنما صبّرهم على أقداره، علمهم بما أودع فيها من لطفه وإبراره.
فهذه عشرة أسباب توجب صبر العبد وثبوته لأحكام سيده، وقوته عند ورودها. وهو المعطي لكل ذلك بفضله، والمانّ بذلك على ذوي العناية من أهله. ولنتكلم الآن على كل قسم منها لتكمل الفائدة وتحصل الجدوى والفائدة.
فأما الأول وهو: "إنما يعينهم على حمل الأقدار، ورود الأنوار":
وذلك أن الأنوار إذا وردت كشفت للعبد عن قرب الحق سبحانه وتعالى منه، وأن هذه الأحكام لم تكن إلا عنه، فكان علمه بأن الأحكام إنما هي من سيده سلوة له، وسبب لوجود صبره. ألم تسمع لما قال الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم: {واصبر لحكم ربك، فإنك بأعيننا}. أي: ليس هو حكم غيره فيشق عليك، بل هو حكم سيدك القائم بإحسانه إليك، ولنا في هذا المعنى:
وخفف عني ما ألاقي من العنا *** بأنك أنت المبتلي والمقدر
وما لأمري عما قضى الله معدل *** وليس له منه الذي يتخير
ومثال ذلك: لو أن إنسانا في بيت مظلم، فضُرب بشيء ولا يدري من الضارب له، فلما أدخل عليه مصباح: نظر فإذا هو شيخه أو أبوه أو أميره. فإن علمه بذلك مما يوجب صبره على ما هنالك.
الثاني: وهو قوله: "إنما يعينهم على حمل الأحكام، فتح باب الإفهام":
إذا أورد الله تعالى على عبده حُكما، وفتح له باب الفهم عنه في ذلك الحكم فاعلم أنه أراد سبحانه أن يحمله عنه، وذلك أن الفهم يرجعك إلى الله، ويحثك إليه، ويجعلك متوكلا عليه، وقد قال تعالى: {ومن يتوكل على الله فهو حسبه}. أي كافيه وواقيه، وناصره على الأغيار وراعيه، لأن الفهم عن الله يكشف لك عن سر العبودية فيك، وقد قال سبحانه وتعالى: {أليس الله بكاف عبده}. وكل هذه الوجوه العشرة ترجع إلى الفهم عنه، وإنما هي أنواع فيه.
الثالث: وهو قوله: "إنما يعينهم على حمل البلايا، واردات العطايا":
وذلك أن واردات العطايا السابقة من الله إليك، تذَكُرك لها مما يعينك على حمل أحكام الله، إذ كما قضى لك بما تحب، اصبر له على ما يحب فيك. ألم تسمع قوله تعالى: {أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها}. فسلاهم الحق فيما أصيبوا بما أصابوا؛ وهذا من العطايا السابقة. وقد يقترن بالبلايا في حين ورودها، ما يخففها على العباد المقربين، من ذلك أن يكشف لهم عن عظيم الأجر الذي ادخره لهم في تلك البلية. ومنها ما ينزل على قلوبهم من التثبيت والسكينة. ومنها ما يورده عليهم من دقائق اللطف وتنزلات المنن، حتى كان بعض الصحابة رضي الله عنهم يقول في بعض مرضه: "أشدد خنقك".
وحتى قال بعض العارفين: لقد مرضت مرضة، فأحببت أن لا تزول، لما ورد علي فيها من أمداد الله تعالى، وانكشف فيها من وجود غيبته" أه. وللكلام في سبب ذلك موضع غير هذا.
الرابع، وهو: "إنما يقويهم على حمل أقداره، شهود حسن اختياره":
وذلك أن العبد إذا شهد حسن اختيار الله تعالى له، علم أن الحق سبحانه لا يقصد ألم عبده لأنه به رحيم {وكان بالمؤمنين رحيما}. وقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة معها ولدها فقال: (أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ قالوا: لا يا رسول الله. فقال صلى الله عليه وسلم: الله أرحم بعبده المؤمن من هذه بولدها). غير أنه سبحانه يقضي عليك بالآلام لما يترتب عليه من الفضل والإنعام، ألم تسمع قوله تعالى: {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب}.
ولو وكل الحق سبحانه العباد إلى اختيارهم لحرموا وجود منته، ومنعوا الدخول إلى جنته، فله الحمد على حسن الاختيار. ألم تسمع قوله تعالى: {وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم}. وإن الأب المشفق يسوق لابنه الحجام لا بقصد الإيلام. وكالطبيب الناصح، يعانيك بالمراهم الحادة، وإن كانت مؤلمة لك، ولو طاوع اختيارَك لبَعُد الشفاء عليك. ومن مُنع وعَلِم أن المنع إنما هو إشفاق عليه، فهذا المنع في حقه عطاء. وكالأم المشفقة تمنع ولدها كثرة المأكل خشية التخمة.
ولذلك قال الشيخ أبو الحسن رحمه الله تعالى:
"اعلم أن الحق سبحانه وتعالى إذا منعك لم يمنعك عن بخل، وإنما يمنعك رحمة لك، فمنع الله لك عطاء، ولكن لا يفهم العطاء في المنع إلا صديق". وفي كلام أثبتناه في غيره هذا الكتاب: إنه ليخفف عنك ألم البلايا، علمك بأنه سبحانه وتعالى المبتلي، لك فالذي واجهتك من الأقدار، هو الذي له فيك حسن الاختيار.
الخامس: وهو قوله: "إنما صبرهم على وجود حكمه: علمهم بوجود علمه":
وذلك: أن علم العبد بأن الحق سبحانه مطلع عليه فيما ابتلاه يخفف عنه أعباء البلايا، ألم تسمع قوله تعالى: {واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا}. أي ما تلقاه يا محمد من كفار قريش من المعاندة والتكذيب فليس بخاف علينا. والحكاية المشهورة: أن إنسانا ضرب تسعة وتسعين سوطا ولم يتأوه، فلما ضرب السوط الذي هو تمام المائة تأوه، فقيل له في ذلك؟ قال: كان الذي ضربت من أجله في الحلقة في التسعة والتسعين فلما ولى عني أحسست بالألم).
السادس: وهو "إنما صبرهم على أفعاله، ظهوره عليهم بوجود جماله":
وذلك: أن الحق سبحانه وتعالى، إذا تجلى على عبده في حين ملاقاته، لمر غلبة البلايا، حمل حرارتها عنه لما أذاقه من حلاوة التجلي، فربما غيبهم ذلك على الإحساس بالألم، ويكفيك في ذلك قوله تعالى: (فلما رأينه أكبرنه، وقطعن أيديهن).
السابع: وهو "إنما صبرهم على القضا علمهم بأن الصبر يورث الرضا":
وذلك: أن من صبر على أحكام الله، أورثه ذلك الرضا من الله، فتحملوا حرارتها طلبا لرضاه، كما يتحسى الدواء المر لما يرجى فيه من عاقبة الشفاء.
الثامن: وهو "إنما صبرهم على الأقدار: كشف الحجب والأستار":
وذلك: أن الحق سبحانه وتعالى، إذا أراد إن يحمل عن عبد ما يورده عليه، كشف الحجاب عن بصيرة قلبه فأراه قربه منه، فغيبه أنس القرب عن إدراك المؤلمات. ولو أن الحق سبحانه وتعالى تجلى لأهل النار بجماله وكماله لغيبهم ذلك عن إدراك العذاب، كما انه لو احتجب عن أهل الجنة لما طاب لهم النعيم. فالعذاب إنما هو: وجود الحجاب، وأنواع العذاب مظاهره، والنعيم إنما هو: بالظهور والتجلي، وأنواع النعيم مظاهره.
التاسع: وهو "إنما قواهم على حمل أثقال التكاليف، ورود أسرار التصريف":
وذلك: لأن التكاليف شاقة على العباد، ويدخل في ذلك امتثال الأوامر، والانكفاف عن الزواجر، والصبر على الأحكام، والشكر عند وجود الأنعام. فهي إذن أربعة: طاعة، ومعصية، ونعمة، وبلية. وهي أربع لا خامس لها: والله عليك في كل واحدة من هذه الأربع عبودية يقتضيها منك بحكم الربوبية.
فحقه عليك في الطاعة: شهود المنة منه عليك فيها.
وحقه عليك في المعصية: الاستغفار لما ضيعت فيها.
وحقه عليك في البلية: الصبر معه عليها.
وحقه عليك في النعمة: وجود الشكر منك فيها.
ويحمل عنك أعباء ذلك كله: الفهم. وإذا فهمت أن الطاعة راجعة إليك وعائدة بالجدوى عليك، صبرك ذلك على القيام بها. وإذا علمت أن الإصرار على المعصية والدخول فيها، يوجب العقوبة من الله آجلا، وانكشاف نور الإيمان عاجلا، كان ذلك سببا للترك منك لها.
وإذا علمت إن الصبر تعود عليك ثمرته، وتنعطف عليه بركته، سارعت إليه، وعولت عليه.
وإذا علمت أن الشكر يتضمن المزيد من الله لقوله تعالى: {لئن شكرتم لأزيدنكم}، كان ذلك سببا لمثابرتك عليه، ونهوضك إليه.
وسنبسط الكلام على هذه الأربع في آخر الكتاب، ونفرد لها فصلا إن شاء الله تعالى.
العاشر: وهو "إنما صبرهم على أقداره، علمهم بما أودع فيها من لطفه وإبراره":
وذلك أن المكاره أودع الحق تعالى فيها وجود الألطاف. ألم تسمع قوله تعالى: {وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم}. وقوله عليه الصلاة والسلام: حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات. وفي البلايا والأسقام والفاقات من أسرار الألطاف ما لا يفهمه إلا أولوا البصائر. ألم تر أن البلايا تخمد النفس وتذلها، وتدهشها عن طلب حظوظها ويقع من البلايا وجود الذلة، ومع الذلة تكون النصرة: (ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة). وبسط القول في ذلك، يخرجنا عن قصد الكتاب.
فائدة: اعلم أن الحق سبحانه، إذا أراد أن يقوّي عبدا على ما يريد أن يورده عليه من وجود حكمه، ألبسه من أنوار وصفه، وكساه من وجود نعته، فتنزلت الأقدار وقد سبقت إليها الأنوار، فكان بربه لا بنفسه، فقوي لأعبائها، وصبر للأوائها.
وإنما يعينهم على حمل الأقدار، ورود الأنوار. وإن شئت قلت: وإنما يعينهم على حمل الأحكام، فتح باب الأفهام. وإن شئت قلت: وإنما يعينهم على حمل البلايا، واردات العطايا. وإن شئت قلت: وإنما يقويهم على حمل أقداره، شهود حسن اختياره. وإن شئت قلت: وإنما يصبّرهم على وجود حكمه، علمهم بوجود علمه. وإن شئت قلت: وإنما صبّرهم على ما جرى، علمهم بأنه يرى. وإن شئت قلت: وإنما يصبّرهم على أفعاله، ظهوره عليهم بوجود جماله. وإن شئت قلت: وإنما صبّرهم على القضا، علمهم بأن الصبر يورث الرضا. وإن شئت قلت: وإنما صبّرهم على الأقدار، كشف الحجب والأسفار. وإن شئت قلت: وإنما قواهم على حمل أثقال التكليف، ورود أسرار التصريف. وإن شئت قلت: وإنما صبّرهم على أقداره، علمهم بما أودع فيها من لطفه وإبراره.
فهذه عشرة أسباب توجب صبر العبد وثبوته لأحكام سيده، وقوته عند ورودها. وهو المعطي لكل ذلك بفضله، والمانّ بذلك على ذوي العناية من أهله. ولنتكلم الآن على كل قسم منها لتكمل الفائدة وتحصل الجدوى والفائدة.
فأما الأول وهو: "إنما يعينهم على حمل الأقدار، ورود الأنوار":
وذلك أن الأنوار إذا وردت كشفت للعبد عن قرب الحق سبحانه وتعالى منه، وأن هذه الأحكام لم تكن إلا عنه، فكان علمه بأن الأحكام إنما هي من سيده سلوة له، وسبب لوجود صبره. ألم تسمع لما قال الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم: {واصبر لحكم ربك، فإنك بأعيننا}. أي: ليس هو حكم غيره فيشق عليك، بل هو حكم سيدك القائم بإحسانه إليك، ولنا في هذا المعنى:
وخفف عني ما ألاقي من العنا *** بأنك أنت المبتلي والمقدر
وما لأمري عما قضى الله معدل *** وليس له منه الذي يتخير
ومثال ذلك: لو أن إنسانا في بيت مظلم، فضُرب بشيء ولا يدري من الضارب له، فلما أدخل عليه مصباح: نظر فإذا هو شيخه أو أبوه أو أميره. فإن علمه بذلك مما يوجب صبره على ما هنالك.
الثاني: وهو قوله: "إنما يعينهم على حمل الأحكام، فتح باب الإفهام":
إذا أورد الله تعالى على عبده حُكما، وفتح له باب الفهم عنه في ذلك الحكم فاعلم أنه أراد سبحانه أن يحمله عنه، وذلك أن الفهم يرجعك إلى الله، ويحثك إليه، ويجعلك متوكلا عليه، وقد قال تعالى: {ومن يتوكل على الله فهو حسبه}. أي كافيه وواقيه، وناصره على الأغيار وراعيه، لأن الفهم عن الله يكشف لك عن سر العبودية فيك، وقد قال سبحانه وتعالى: {أليس الله بكاف عبده}. وكل هذه الوجوه العشرة ترجع إلى الفهم عنه، وإنما هي أنواع فيه.
الثالث: وهو قوله: "إنما يعينهم على حمل البلايا، واردات العطايا":
وذلك أن واردات العطايا السابقة من الله إليك، تذَكُرك لها مما يعينك على حمل أحكام الله، إذ كما قضى لك بما تحب، اصبر له على ما يحب فيك. ألم تسمع قوله تعالى: {أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها}. فسلاهم الحق فيما أصيبوا بما أصابوا؛ وهذا من العطايا السابقة. وقد يقترن بالبلايا في حين ورودها، ما يخففها على العباد المقربين، من ذلك أن يكشف لهم عن عظيم الأجر الذي ادخره لهم في تلك البلية. ومنها ما ينزل على قلوبهم من التثبيت والسكينة. ومنها ما يورده عليهم من دقائق اللطف وتنزلات المنن، حتى كان بعض الصحابة رضي الله عنهم يقول في بعض مرضه: "أشدد خنقك".
وحتى قال بعض العارفين: لقد مرضت مرضة، فأحببت أن لا تزول، لما ورد علي فيها من أمداد الله تعالى، وانكشف فيها من وجود غيبته" أه. وللكلام في سبب ذلك موضع غير هذا.
الرابع، وهو: "إنما يقويهم على حمل أقداره، شهود حسن اختياره":
وذلك أن العبد إذا شهد حسن اختيار الله تعالى له، علم أن الحق سبحانه لا يقصد ألم عبده لأنه به رحيم {وكان بالمؤمنين رحيما}. وقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة معها ولدها فقال: (أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ قالوا: لا يا رسول الله. فقال صلى الله عليه وسلم: الله أرحم بعبده المؤمن من هذه بولدها). غير أنه سبحانه يقضي عليك بالآلام لما يترتب عليه من الفضل والإنعام، ألم تسمع قوله تعالى: {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب}.
ولو وكل الحق سبحانه العباد إلى اختيارهم لحرموا وجود منته، ومنعوا الدخول إلى جنته، فله الحمد على حسن الاختيار. ألم تسمع قوله تعالى: {وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم}. وإن الأب المشفق يسوق لابنه الحجام لا بقصد الإيلام. وكالطبيب الناصح، يعانيك بالمراهم الحادة، وإن كانت مؤلمة لك، ولو طاوع اختيارَك لبَعُد الشفاء عليك. ومن مُنع وعَلِم أن المنع إنما هو إشفاق عليه، فهذا المنع في حقه عطاء. وكالأم المشفقة تمنع ولدها كثرة المأكل خشية التخمة.
ولذلك قال الشيخ أبو الحسن رحمه الله تعالى:
"اعلم أن الحق سبحانه وتعالى إذا منعك لم يمنعك عن بخل، وإنما يمنعك رحمة لك، فمنع الله لك عطاء، ولكن لا يفهم العطاء في المنع إلا صديق". وفي كلام أثبتناه في غيره هذا الكتاب: إنه ليخفف عنك ألم البلايا، علمك بأنه سبحانه وتعالى المبتلي، لك فالذي واجهتك من الأقدار، هو الذي له فيك حسن الاختيار.
الخامس: وهو قوله: "إنما صبرهم على وجود حكمه: علمهم بوجود علمه":
وذلك: أن علم العبد بأن الحق سبحانه مطلع عليه فيما ابتلاه يخفف عنه أعباء البلايا، ألم تسمع قوله تعالى: {واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا}. أي ما تلقاه يا محمد من كفار قريش من المعاندة والتكذيب فليس بخاف علينا. والحكاية المشهورة: أن إنسانا ضرب تسعة وتسعين سوطا ولم يتأوه، فلما ضرب السوط الذي هو تمام المائة تأوه، فقيل له في ذلك؟ قال: كان الذي ضربت من أجله في الحلقة في التسعة والتسعين فلما ولى عني أحسست بالألم).
السادس: وهو "إنما صبرهم على أفعاله، ظهوره عليهم بوجود جماله":
وذلك: أن الحق سبحانه وتعالى، إذا تجلى على عبده في حين ملاقاته، لمر غلبة البلايا، حمل حرارتها عنه لما أذاقه من حلاوة التجلي، فربما غيبهم ذلك على الإحساس بالألم، ويكفيك في ذلك قوله تعالى: (فلما رأينه أكبرنه، وقطعن أيديهن).
السابع: وهو "إنما صبرهم على القضا علمهم بأن الصبر يورث الرضا":
وذلك: أن من صبر على أحكام الله، أورثه ذلك الرضا من الله، فتحملوا حرارتها طلبا لرضاه، كما يتحسى الدواء المر لما يرجى فيه من عاقبة الشفاء.
الثامن: وهو "إنما صبرهم على الأقدار: كشف الحجب والأستار":
وذلك: أن الحق سبحانه وتعالى، إذا أراد إن يحمل عن عبد ما يورده عليه، كشف الحجاب عن بصيرة قلبه فأراه قربه منه، فغيبه أنس القرب عن إدراك المؤلمات. ولو أن الحق سبحانه وتعالى تجلى لأهل النار بجماله وكماله لغيبهم ذلك عن إدراك العذاب، كما انه لو احتجب عن أهل الجنة لما طاب لهم النعيم. فالعذاب إنما هو: وجود الحجاب، وأنواع العذاب مظاهره، والنعيم إنما هو: بالظهور والتجلي، وأنواع النعيم مظاهره.
التاسع: وهو "إنما قواهم على حمل أثقال التكاليف، ورود أسرار التصريف":
وذلك: لأن التكاليف شاقة على العباد، ويدخل في ذلك امتثال الأوامر، والانكفاف عن الزواجر، والصبر على الأحكام، والشكر عند وجود الأنعام. فهي إذن أربعة: طاعة، ومعصية، ونعمة، وبلية. وهي أربع لا خامس لها: والله عليك في كل واحدة من هذه الأربع عبودية يقتضيها منك بحكم الربوبية.
فحقه عليك في الطاعة: شهود المنة منه عليك فيها.
وحقه عليك في المعصية: الاستغفار لما ضيعت فيها.
وحقه عليك في البلية: الصبر معه عليها.
وحقه عليك في النعمة: وجود الشكر منك فيها.
ويحمل عنك أعباء ذلك كله: الفهم. وإذا فهمت أن الطاعة راجعة إليك وعائدة بالجدوى عليك، صبرك ذلك على القيام بها. وإذا علمت أن الإصرار على المعصية والدخول فيها، يوجب العقوبة من الله آجلا، وانكشاف نور الإيمان عاجلا، كان ذلك سببا للترك منك لها.
وإذا علمت إن الصبر تعود عليك ثمرته، وتنعطف عليه بركته، سارعت إليه، وعولت عليه.
وإذا علمت أن الشكر يتضمن المزيد من الله لقوله تعالى: {لئن شكرتم لأزيدنكم}، كان ذلك سببا لمثابرتك عليه، ونهوضك إليه.
وسنبسط الكلام على هذه الأربع في آخر الكتاب، ونفرد لها فصلا إن شاء الله تعالى.
العاشر: وهو "إنما صبرهم على أقداره، علمهم بما أودع فيها من لطفه وإبراره":
وذلك أن المكاره أودع الحق تعالى فيها وجود الألطاف. ألم تسمع قوله تعالى: {وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم}. وقوله عليه الصلاة والسلام: حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات. وفي البلايا والأسقام والفاقات من أسرار الألطاف ما لا يفهمه إلا أولوا البصائر. ألم تر أن البلايا تخمد النفس وتذلها، وتدهشها عن طلب حظوظها ويقع من البلايا وجود الذلة، ومع الذلة تكون النصرة: (ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة). وبسط القول في ذلك، يخرجنا عن قصد الكتاب.
_________________
مواضيع مماثلة
» تقوية الحق لعبده فيما يورده عليه(التنوير في إسْقاط التدْبير )
» تحقيق الكلام فيما روي عن الإمام مالك “من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة، فقد زعم أن محمدا صلى الله عليه وسلم خان
» مناجاة الحق
» سر قول إبراهيم عليه السلام حسبي من سؤالي علمه بحالي
» نسب النبي صلى الله عليه وسلم «الصادق المصدوق»
» تحقيق الكلام فيما روي عن الإمام مالك “من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة، فقد زعم أن محمدا صلى الله عليه وسلم خان
» مناجاة الحق
» سر قول إبراهيم عليه السلام حسبي من سؤالي علمه بحالي
» نسب النبي صلى الله عليه وسلم «الصادق المصدوق»
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى