الطريقة الرقانية التواتية
صفحة 1 من اصل 1
الطريقة الرقانية التواتية
الطريقة الرقانية التواتية
منقول من فيسبوك مولاي عبد الله الرقاني
الطريقة الرقانية التواتية وانتشارها في أفريقيا جنوب الصحراء خلال القرنين 12 ـ 13هـ/18 ـ 19 م
مجلة الدراسات التاريخية والاجتماعية، دورية أكاديمية دولية محكمة تعنى بالقضايا التاريخية والاجتماعية، تصدر عن كلية الآداب والعلوم الإنسانية جامعة نواكشوط موريتانيا، الترقيم الوطني 1425/2014 الترقيم الدولي 2412-3501، العدد 22، 2017، ص ص 63 – 74.
شكلت الطرق الصوفية على مر العصور رباطا روحيا جمع بين الجزائر وإفريقيا جنوب الصحراء, وكانت توات في الجنوب الغربي للجزائر بمثابة البوابة التي مرت منها الكثير من الطرق الصوفية لأفريقيا, وفي مقدمتها: الطريقة القادرية، والبكائية، والتجانية، وغيرها، كما أسهمت توات في قيام بعض الطرق الصوفية مثل الطريقة الرقانية للشيخ مولاي عبد الله الرقاني المتوفى سنة 1148ه/1735م، والتي عرفت طريقها إلى إفريقيا جنوب الصحراء وكان لها مريدين وأتباع كثر خاصة في منطقة الحوض والساحل الموريتاني، وهو ما نتناوله في هذه المقالة التاريخية.
الكلمات المفتاحية: توات، الطرق الصوفية، مولاي عبد الله الرقاني، مولاي عبد المالك الرقاني، الطريقة الرقانية، إفريقيا جنوب الصحراء، السودان الغربي، ولاته.
الملخص:
The Brotherhood of Er-Reggania Et-Touatia
and its Spread in Sub-Saharan Africa during
the 13th,14th centuries H.A / 18th, 19th centuries A.D.
Keywords: Touat, Sufi Brotherhoods, Moulay Abdallah E-Reggani, Moulay Abdelmalek Er-Reggani, Er-Reggania Brotherhood, Sub-Saharan Africa, Western Sudan, Walata
Abstract
Through ages, the sufi brotherhoods have constituted a spiritual tighr that linked Algeria to Sub-Saharan states in general. The many sufi brotherhoods region of Touat had been considered the gate through which reached Africa. The leading of these brotherhoods were el-Qadiriya , el-Bekkaia, et-Tijaniya, ect. It’s worth noting that the region of Touat has contributed to the rise of some sufi brotherhoods like er-Reggania which was founded by Shaykh Moulay Abdallah Er-Reggani who died in 1148 H.A. / 1735 A.D., and which reached Sub-Saharan Africa, and had may Mudridin and disciples there, especially in the Delta and the Coast in Mauritania. The article attempts to deal with the presence of this Brotherhood in these regions focusing on its impact on society through a historical approach.ـ مقدمة
تعتبر الجزائر من أكثر المناطق غنى بالزوايا والطرق الصوفية، والتي شكلت على مر العصور إحدى وسائل التواصل الروحي والعلمي بينها وبين إفريقيا جنوب الصحراء، ومنها انتقلت الكثير من هذه الطرق إلى عموم إفريقيا، وتعد واحات توات بالجنوب الغربي الجزائري وبحكم موقعها الاستراتيجي الذي يتوسط طريق القوافل العابرة للصحراء، مركز إشعاع حضاري والبوابة التي انتقلت منها هذه الطرق نحو الجنوب، والأمثلة هنا كثيرة منها الطريقة القادرية والتي يعد المغيلي أول من أدخلها إلى توات والسودان الغربي، ونفس الشيء بالنسبة للطريقة البكائية الكنتية التي عمل الكنتيون على نشرها انطلاقا من توات، كما شهدت توات قيام بعض الطرق الصوفية ومنها الطريقة الرقانية للشيخ مولاي عبد الله الرقاني، والتي كان لها انتشار واسع في إفريقيا جنوب الصحراء.
ويتناول هذا المقال إشكالية انتشار الطريقة الرقانية التواتية وتوسعها في إفريقيا جنوب الصحراء. وتندرج تحت هذه الإشكالية عدة إشكالات فرعية منها: ما هي الطريقة الرقانية ؟ ومن هو مؤسسها ؟ وما هي منابعها والطرق التي انبثقت عنها ؟ وما هي العوامل التي كانت وراء انتشارها في إفريقيا جنوب الصحراء ؟ وما مدى إقبال الأفارقة على هذه الطريقة ؟ وتكمن أهمية الموضوع في كونه يعرفنا على الطريقة الرقانية الغير معروفة عند الكثير من الباحثين، وعلى عمق الروابط الروحية التي نسجتها هذه الطريقة بين الجزائر وإفريقيا جنوب الصحراء. ويكون تصورنا لمعالجة الموضوع وفق الخطة الآتية:
ـ مقدمة
ـ تعريف التصوف.
ـ التعريف بالطريقة الرقانية التواتية.
ـ منابع الطريقة الرقانية ومشاربها.
ـ عوامل انتشار الطريقة في إفريقيا جنوب الصحراء.
ـ انتشار الطريقة في إفريقيا جنوب الصحراء.
ـ خاتمة.
أ ـ تعريف التصوف:
اختلفت الروايات في اصل كلمة التصوف، حيث يرى البعض أنها جاءت من الكلمة اليونانية (صوفيا) والتي تعنى الحكمة. بينما يرى البعض الآخر أنها جاءت من لباس الصوف, وأنَّ أبا هاشم الكوفي هو أول من لبس الصوف, فأطلق عليه متصوفا([1])، رغم أن لبس الصوف كان موجودا قبله، حيث يروى عن الحسن البصري قوله: "لقد أدركت سبعين بدرياً ما كان لباسهم إلا الصوف"([2])، وقيل لأن الصوفي مع الله كالصوفة المطروحة في الهواء التي لا تدبير لها. وقيل انها من صُفَّة المسجد النبوي الشريف أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم والصوفي تابع لهم([3]). وَقَالَ البعض إنما سموا صوفية لأَنهم يكونون فِي الصَّفّ الأول بَين يَدي الله عز وجلّ([4]). ويرى البعض أنها جاءت من أهل الصفة وهم: فقراء المسلمين في صدر الإسلام, الذين انقطعوا للعبادة وملازمة المسجد وطلب العلم, وفيهم نزل قوله تعالى ((لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ))([5])([6]). ويرى البعض أنها من الصفاء: وهو نقاء القلب، وقيل لصفاء أسرارها ونقاء آثارها([7]).
أما تعريف التصوف فهناك تعاريف كثيرة منها: قيل للجنيد ما التصوف ؟ قال: لحوق السر بالحق، ولا ينال ذلك إلا بفناء النفس عن الأسباب، لقوة الروح والقيام مع الحق([8]). وعرفه محمد بن علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب رضي الله عنه: انه خلق فمن زاد عليك في الخلق، زاد عليك في التصوف([9]). وعرفه أبو علي الزوذباري: أنه من لبس الصوف على الصفا وأطعم الهوى ذوق الجفا، وكانت الدنيا منه على القفا، وسلك منهج المصطفى([10]). وعرفه معروف الكرخي: انه الأخذ بالحقائق، واليأس مما في أيدي الخلائق. وسئل علي بن عبد الرحيم القناد عن التصوف فقال: نشر مقام واتصال بدوام. وسأل رجل أبا يزيد عن التصوف فقال: طرح النفس في العبودية، وتعليق القلب بالربوبية، واستعمال كل خلق سنيّ، والنظر إلى الله الكلية([11]). وعرفه آخر: أنه ذكر مع إجتماع، ووجد مع استماع، وعمل مع اتباع([12]). وقال الحسن البصري في المتصوفة: قلوبهم محزونة، وشرورهم مأمونة، وحوائجهم خفية، وأنفسهم عفيفة، تسيل دموعهم على خدودهم...هم أهل تقوى، علاماتهم: صدق الحديث، والوفاء بالعهد، وصلة الرحم، ورحمة الضعفاء، وقلة الفخر والخيلاء، وبذل المعروف، وقلة المباهاة بين الناس وسعة الخلق مما يقرب إلى الله([13]). وقال الجنيد أن التصوف يبنى على ثمان خصال: السخاء، والرضا، والصبر، والإشارة، والغربة، ولبس الصوف، والسياحة، والفقر([14]).
أما الطريقة فهي من الطريق، والمقصود بها طريق السلوك إلى الله، وهو الطريق الذي يسلكه أهل التصوف، والطريق عبارة عن مراسم الله تعالى المشروعة التي لا رخصة فيها([15]).
ولطريق التصوف حسب البعض أربعة أركان هي: المحبة، والذكر، والفكر، والتسليم([16]). ويعرف الطريقة البعض أنها: السير بالسيَر المختصة بالسالكين إلى الله من قطع المنازل، والترقي في المقامات([17]).
ب ـ التعريف بالطريقة الرقانية: تنسب الطريقة الرقانية للشيخ مولاي عبد الله الرقاني([18]) المولود بقرية تاوريرت إحدى قرى توات([19]) سنة 1093هـ/1682م، أما نسبه فهو مولاي عبد الله، بن مولاي علي، بن مولاي الزين، بن مولاي محمد المعرف بسيدي حمو بالحاج، والذي دخل إلى توات في حدود 1035 ه/1626م، بن مولاي الحاج، بن مولاي محمد، بن مولاي عبد الله، بن مولاي محمد الحاج الكبير البوعامي الفيلالي، بن مولاي علي الشريف، بن مولاي الحسن، بن مولاي محمد، بن مولاي الحسن الداخل ـ سمي بذلك لأنه دخل من ينبع النخيل بجوار المدينة المنورة إلى المغرب ثم إلى تافلالت ـ ابن مولاي قاسم إمام المدينة المنورة، بن مولاي محمد، بن مولاي أبي القاسم، بن مولاي محمد، بن مولاي محمد، بن مولاي الحسن، بن مولاي الحسن، بن مولاي عبد الله، بن مولاي محمد عرفة، بن مولاي الحسن، بن مولاي أبي الحسن، بن مولاي علي، بن مولاي الحسن، بن أبي بكر، بن مولاي علي، بن مولاي الحسن، بن مولاي أحمد، بن مولاي إسماعيل، بن مولاي قاسم، بن مولاي محمد المعروف بالنفس الزكية، بن مولاي عبد الله الكامل، بن مولاي الحسن المثنى، بن مولاي الحسن السبط، بن مولاي علي بن أبي طالب وفاطمة الزهراء بنت الرسول صلى الله عليه وسلم([20]). وأمه هي عائشة بنت الحاج موسى، من أولاد حريز وكان قد تزوجها أبوه في إحدى أسفاره إلى تمبكتو([21]).
نشأ الشيخ مولاي عبد الله بقرية تاورريت عند أخواله، بعدما تركه والده في بطن أمه وعاد إلى تافلالت بالمغرب الأقصى، وعندما بلغ الشيخ مولاي عبد الله عشر سنيين أخذه ابن عمه مولاي علي إلى قصر زاوية كنته بناء على وصية والده وبرضا أمه وأخواله، وقام بتربيته وتدريسه حتى حفظ القرآن الكريم ثم أخذه عند الشيخ محمد المصطفى بن عبد المؤمن فتعلم على يده الفقه والعقيدة والتصوف، ولما مات واصل تعلمه على يد الشيخ أحمد الصوفي الرقادي شيخ الزاوية الكنتية القادرية وكان يومئذ أحد علماء توات البارزين. ولما بلغ سن الرشد أخذه ابن عمه مولاي علي مع ابنه محمد المهدي إلى قرية بوعلي ليتعلم أصول الزراعة وحفر الفقاقير والتجارة، انتقل بعدها إلى رقان التي أسس بها زاويته التي ذاع صيتها في ربوع توات, وقصده الناس من كل مكان توفي سنة 1148هـ/1735م. ليخلفه على الزاوية والطريقة ابنه وخليفته الشيخ مولاي عبد المالك الرقاني (ت1207هـ/ 1793م)([22]) والذي يعد المؤسس الثاني للطريقة الرقانية وفي عهده اشتهر أمر الزاوية برقان وذاع صيتها عرف عنه أيضا الورع والزهد، تتلمذ على والده الشيخ مولاي عبد الله الرقاني الذي أخذ عنه العلم والتصوف, قال عنه البرتلي في فتح الشكور: "القطب الرباني, والغوث الصمداني, الوالي الصالح...ساقي المريد, وعمدة أهل التوحيد, شيخ المحققين, ومربي السالكين... وبالجملة فهو في الصلاح والولاية فوق ما يذكر ... مكث اثني عشر عاما لا ينام ليلا ولا نهار, ملازما لتلاوة القرآن...اشتهر باجتهاده وكرماته، وكانت زاويته في رقان مقصدا للوافدين من كل مكان" توفي بعد صلاة الصبح من يوم السبت 14 شوال عام 1207هـ/25 ماي 1793م.
ـ منابع الطريقة الرقانية: كان الشيخ مولاي عبد الله الرقاني مؤسس الطريقة منذ صغره مولعا بالتصوف منشغلا به كثيراً، أخذ مبادئه الأولى على يد الشيخ أحمد الصوفي شيخ الزاوية الكنتية القادرية الذي أعجب به لسرعة حفظه وبداهته وشدة حرصه، وقال فيه: "سترون لهذا الشريف من ظهور الكرمات وخوارق العادات ما لا يدخل تحت الحصر"([23])، وفي زاوية كنتة تعلم أصول الدين والفقه على يد أشياخه من بني الرقاد، كما كان كثير التردد على ضريح الشيخ محمد بن عبد الكريم المغيلي القادري بزاويته ببوعلي، وفي الطريق بين بوعلي وزاوية كنته أدركته الولاية بالمكان المعروف بواد بوعلي، اتصل بعدها بالشيخ سيدي أمحمد بن أبي زيان القندسي([24])، وعنه أيضا أخذ الطريقة القادرية، ثم أخذ عنه طريقته وسلسلة أشياخه، والسلسلة الزيانية تمتد إلى الشيخ أبي الحسن الشاذلي وعبد السلام بن مشيش وأبي مدين شعيب، وأذكار الزيانية هي أذكار الشاذلية مع بعض التغيير مثلا: الاستغفار 100 مرة عند الفجر، والصلاة على الرسول مائة مرة بهذه الصيغة "اللهم صل على سيدنا ومولانا محمد وآله وصحبه وسلم"، والتشهد ألف مرة، والتسبيح مائة مرة، وذكر اسم الجلالة ألف مرة. أما ابنه وخليفته الشيخ مولاي عبد المالك الرقاني فكان يقرأ تعاليم الشاذلية من الحكم العطائية([25]). وتذكر المصادر وبعض الروايات انه وصل مرتبة الغوث، وكان يقول: "لولا أن سلسلة الورد أخذتها عن والدي، لأوصلتها للرسول مباشرة"([26]) أما ما استحدثته هذه الطريقة وتميزت به في توات فهو ورد الرماية حيث ما إن استقر الأمر لمولاي عبد الله الرقاني بزاويته حتى أسس فرقة للرماية وكان لها ورد خاص بها يتصل سنده بالشيخ محمد بن موسى الخلاص، عن بن ناصر، عن الزوبير بن العوام، عن عمر بن الشاط، عن مالك بن انس، عن المقداد، عن سعد بن أب وقاص، عن الرسول صلى الله عليه وسلم، عن جبريل عن المولى عز وجل([27]). ومن هنا يمكن القول أن الطريقة الرقانية تجمع بين عدة طرق صوفية كالقادرية([28])، والشاذلية([29])، والزيانية([30])، والطيبية([31]) والبكائية([32])، إضافة إلى التجانية([33])، حيث أن مريديها يقرؤون صلاة الفاتح لما أغلق أو الياقوتة الفريدة([34]) في ختام حلقات الذكر([35])، ولذلك يختلط الأمر في تصنيفها حسب الدكتور أبو القاسم سعد الله([36]). والذي يرى أيضا ونوافقه الرأي أن معظم الطرق الصوفية تأخذ عن بعضها البعض، وأن الأتباع يمكنهم أن يجمعوا بين عدة طرق في نفس الوقت، غير التجانية التي تشترط على أتباعها عدم الجمع بينها وبين طريقة أخرى([37]).
عوامل انتشار الطريقة في إفريقيا جنوب الصحراء: هناك عوامل كثيرة كانت وراء انتشار هذه الطريقة منها:
ـ أخلاق ومكانة الشيخ مولاي عبد الله وخليفته مولاي عبد المالك: اتسم الشيخ مولاي عبد الله بالخلق الطيب والنفس الحليمة وبالسخاء والجود، وكان مثالا في العفة والإنصاف متواضعا يزور المريدين ويتعدهم ويعطف على الفقراء والمساكين ويحنوا عليهم، عطوفا على الضعفاء والأرامل والأيتام يواسيهم ويسأل عنهم ويتفقدهم في منازلهم واحدا واحدا، وكانت تأتيه الهدايا الكثيرة فيفرقها دون أن ينظر إليها، يقابل الأعداء بوجه حسن والإساءة بالإحسان، وهذا ما حبب فيه الخلق وجعل كل من رآه يتعلق به ويصير من أتباعه، وهي نفس صفات خليفته وابنه الشيخ مولاي عبد المالك([38]).
ـ تسامح الطريقة وجمعها بين عدة طرق: عرف عن الطريقة الرقانية كما قلنا أنها جمعت بين عدة طرق فهي قادرية، شاذلية، بكائية، زيانية، تيجانية، ولم تكن تتعصب لورد معين أو طريقة معينة، وهو ما جعل الدكتور أبو القاسم سعد الله يقول أنه يصعب تصنيفها، وهذا ما ساعد في نظرنا على انتشارها حتى في المناطق التي عرف عنها أنها تيجانية مثل السنغال.
ـ القوافل التجارية: شكلت التجارة إحدى وسائل الاتصال المثمرة بين توات وعوم منطقة السودان الغربي, وفي توات كانت تجتمع القوافل من الشمال مع القوافل القادمة من بلاد السودان([39]), بوصفها نقطة عبور وممر رئيسي لهاته القوافل ولما كانت تدره من أرباح، ولهذا مارس الكثير من شيوخ الطريقة التجارة، وكان تأثير التجار كبيراً, فهم سفراء للطريقة بفضل معاملتهم, وطريقتهم المشبعة بالروح الإسلامية, وإنفاقهم بسخاء مما جعلهم يحوزون على إعجاب وثقة السكان فراحوا يقلدونهم في سلوكهم ويأخذون عنهم الطريقة والورد. ومن بين التجار الرقانيين الذين كان لهم نشاط في بلاد السودان الغربي نذكر: مؤسس الطريقة وشيخها الشيخ مولاي عبد الله الرقاني الذي تعلم التجارة من ابن عمه مولاي علي بن مولاي أمحمد، وكان يتاجر أول الأمر بأصول والده حتى صارت له ثروة كبيرة تمكن من خلالها شراء قرية انتهنت من الطوارق كلنصار وأسس بها زاويته المشهورة([40]). ووالده أيضا الشيخ مولاي علي بن مولاي الزين كان تاجرا بين تمبكتو وتفلالت وكانت له أموالا كثيرة أيضا وقصة مجيئه وزواجه بتوات معروفة([41]).
ـ ركب الحجيج: كانت توات إحدى المحطات الرئيسية لحجيج بلاد السودان الغربي, وشكل الحج فرصة سنوية مناسبة للكثير من الأفارقة لزيارة المنطقة والالتقاء بالعلماء والطلبة, وتسجل الكثير من المصادر التاريخية رحلات الحجيج التي قام بها الأفارقة عبر توات, وضمت قوافل الحجيج كثيرا من العلماء والفقهاء الأفارقة, ممن كانت لهم إسهامات وآثار بالمنطقة من دون شك, نذكر منهم على سبيل المثال: الشيخ أبو بكر بن الطالب محمد بن الطالب عمر البرتلي (ت1199هـ/1785م)([42]), وممن حج من الفقهاء الشيخ الحاج البشير بن أبي بكر بن الطالب محمد البرتلي(ت1214هـ/1799م), حج سنة 1204هـ/1789م, وله رحلة حول ذلك, يذكر فيها مراحل الطريق من توات إلى الحج([43]). وكان لحجاج السودان الغربي أماكن محددة يأتون إليها داخل توات, في أوقات معلومة من السنة, وهناك يلتقون بالطلبة والعلماء من الإقليم, ومن بين المناطق التي كانوا يزورونها زاوية رقان المقر الرئيسي للطريقة إلى جانب زاوية الشيخ سيدي علي بن حنيني بزاقلو, زاوية كنته, زاوية الركب النبوي بأقبلي بمنطقة تيدكلت([44]).
ـ إرسال العلماء والرسل: كان شيوخ الطريقة الرقانية وشيوخ توات بصفة عامة يرسلون رسلهم حاملين الورد لمناطق السودان الغربي، وفي مقدمتهم رسول الشيخ مولاي عبد المالك الرقاني لتلك المناطق, الشيخ مولاي زيدان بن محمد بن مولاي أحمد بن سيدي حم (ت1202هـ/1788م) الذي زار بلاد التكرور أربع مرات حسب البرتلي, وكان عاملا على نشر الطريقة هناك, ومن الأماكن التي كان ينزل بها ولاته([45]). كذلك من بين العلماء الذين انتقلوا إلى بلاد السودان الغربي حاملين معهم التصوف الطالب سيدي أحمد التواتي بن محمد بن عمر, من بني علي بن عبد الله, يقول عنه البرتلي: أنه كان أحد الأولياء العارفين, مداوما على الأوراد, مشتغلا بالتصوف, له خزانة مليئة بكتبه, وغيرها([46]).
ـ تنقل أبناء العائلة الرقانية والقبيلة البلحاجية إلى بلاد السودان الغربي: عرف عن أبناء العائلة الرقانية وقبيلة أبناء السي حمو بالحاج على العموم كثرة تنقلهم لبلاد السودان الغربي واستقرارهم هناك، إما بصفة دائمة أو مؤقتة، حاملين معهم الورد والطريقة عاملين على نشرهما، وأوردت لنا المصادر التاريخية تراجم للبعض منهم نذكر منهم هنا على سبيل المثال لا الحصر: مولاي السعيد بن مولاي عبد الرقاني (ت1209هـ/1795هـ) وأخوه مولاي الشريف بن مولاي عبد الله الرقاني (ت1208ه/1794م) والذي ذكر صاحب منح الرب الغفور أنهما كانا من عباد الله الصالحين والأولياء المشهورين لهما كرامات ومناقب كثيرة([47])، والشريف سيدي محمد الحاجب بن مولاي عمر بن مولاي فضيل بن مولاي هاشم بن مولاي محمد بن مولاي عبد المالك بن سيدي حم بن الحاج المتوفي سنة (1231ه/1816م)([48])، ومن الأشراف الذين سكنوا ولاته أيضا وتوفوا بها الشريف مولاي عبد القادر المعروف بعاله بن مولاي الشريف بن سيدي محمد بن مولاي عبد القادر بن سيدي حمو بن الحاج المتوفى سنة (1215ه1800م)، وكان الشريف عاله تقيا عابدا قوي الدين نصوحا للجميع لا يخاف في الله لومة لائم حسن الوجه والثياب والحديث حريصا على حق البهائم فما بالك بحقوق الناس وكان مشهور بين أهل ولاته بالبركة وقبره إلى اليوم بها بجبلها الغربي، لا يزوره أحد في حاجة إلا قضاها([49]). ومنهم الشريف الشيخ بن لخليفه بن مولاي الشريف بن سيدي محمد بن مولاي عبد القادر بن سيدي حمو بالحاج (ت1264هـ/1848م)([50])، ومنهم الشريف بن مولاي عمار بن مولاي فضيل بن مولاي هاشم بن مولاي أمحمد بن مولاي عبد المالك بن سيدي حمو بن الحاج (ت1267هـ/1851م)([51]). ومنهم المجاهد مولاي عبد الله بن مولاي العباس ووالده مولاي العباس بن مولاي عبد الله بن الشيخ مولاي عبد المالك اللذان انتقلا برهة من الزمن إلى بلاد السودان وعاشا متنقلان بين ولاته وتمبكتو لفترة من الزمن قبل أن يعودا إلى مسقط رأسهما برقان([52]).
ـ انتشار الطريقة في إفريقيا جنوب الصحراء: عرفت الطريقة الرقانية انتشارا واسعا في بلاد السودان الغربي، وذاع خبرها، وكثر ذكرها على لسان العامة من المغرب الأقصى شمالا إلى الأراضي الموريتانية إلى إفريقيا جنوب الصحراء خاصة النيجر ونيجيريا ومالي والسنغال([53])، ولم يعد نفوذها وموريدوها ينتشرون في توات الوسطى وقورارة وتيدكلت فقط بل حتى في تمبكتو والسنغال وموريتانيا، كما كان الطوارق كثيري التردد على الزاوية برقان وكان لها نفوذ كبير عليهم([54])، وكان الناس يأتون إليها من كل مكان لحل مشاكلهم وقضاء حوائجهم([55])، ومن الأماكن التي عرفت انتشارا كبيرا للطريقة مدينة ولاته والنعمة الموريتانيتين وقد زار الشيخ مولاي زيدان بن محمد بن مولاي أحمد بن سيدي حم (ت1202هـ/1788م) رسول الشيخ مولاي عبد المالك الرقاني هذه البلاد أربع مرات حسب البرتلي الولاتي حاملا معه الورد والطريقة الرقانية، ومن الأماكن التي كان ينزل بها ولاته, أين كان الناس يأتونه في الصباح والمساء للتبرك به والاستفادة منه, ويقول عنه البرتلي: أنه أثر في الناس أيما تأثير, وأعطي قدرة في الكلام فلا يناظره احد إلا أفحمه, وقد قصدته في سبعين حاجة بين الدنيا والآخرة, قضى الله لي جميع حوائج الدنيا, وأنا أرجوه قضاء حوائج الآخرة([56]). وقال فيه صاحب منح الرب الغفور أنه كان من أولياء الله العاملين الكاملين ذا جد واجتهاد، وكان سخيا كريما تقيا من كرماته طي الأرض له وتسخير الخلق وانقيادهم له فترى البخيل يعطيه نفائس ماله عن طيب خاطر، وإذا رآه احد اجتمع في قلبه الحب والخوف منه، وما قصده أحد في مسألة إلا أعطاه الله إياها، وهو من أوصل ورد الشيخ مولاي عبد المالك لأهل بلادنا([57]).
ـ خاتمة:
وفي ختام هذه المداخلة والتي حاولنا من خلالها التعريف بالطريقة الرقانية وإبراز انتشارها في إفريقيا جنوب الصحراء نخرج بمجموعة من النتائج نذكر من بينها:
ـ تعد منطقة توات في الجنوب الغربي للجزائر من أكثر المناطق غنى بالزوايا والطرق الصوفية، وقلما تجد في توات في تلك الفترة شخص لا يتبع طريقة أو زاوية.
ـ تعد توات بالجنوب وبحكم موقعها الاستراتيجي الذي يتوسط الصحراء، بوابة انتقلت منها هذه الطرق نحو الجنوب، مثل القادرية والبكائية والتجانية.
ـ شهدت توات قيام بعض الطرق الصوفية ومنها الطريقة الرقانية للشيخ مولاي عبد الله الرقاني، والتي كان لها انتشار واسع في إفريقيا جنوب الصحراء.
ـ تنسب الطريقة الرقانية للشيخ مولاي عبد الله الرقاني بن مولاي علي بن مولاي الزين بن سيدي حمو بالحاج والمتوفى سنة 1148هـ/1735م. كما يعد ابنه وخليفته الشيخ مولاي عبد المالك الرقاني المتوفى سنة 1207هـ/ 1793م المؤسس الثاني للطريقة وفي عهده عرفت طريقها نحو الجنوب على يد رسوله الشيخ مولاي زيدان.
ـ جمعت الطريقة الرقانية بين عدة طرق صوفية كالقادرية، والشاذلية، والزيانية، والطيبية، والبكائية، والتجانية، ولذلك يختلط الأمر في تصنيفها حسب الكثيرين.
ـ ساهمت عدة عوامل في انتشار هذه الطريقة في إفريقيا جنوب الصحراء منها: أخلاق ومكانة الشيخ مولاي عبد الله وخليفته الشيخ مولاي عبد المالك، وتسامح الطريقة وجمعها بين عدة طرق، والقوافل التجارية، وركب الحجيج، وإرسال العلماء والرسل، وتنقل أبناء العائلة الرقانية خاصة والقبيلة البلحاجية عامة إلى بلاد السودان الغربي.
ـ عرفت الطريقة الرقانية انتشارا واسعا في إفريقيا جنوب الصحراء، خاصة في موريتانية والنيجر ونيجيريا ومالي والسنغال، ومن الأماكن التي عرفت وجودا كبيرا للطريقة مدينة ولاته والنعمة الموريتانيتين، وقد زار الشيخ مولاي زيدان بن محمد بن مولاي أحمد بن سيدي حمو رسول الشيخ مولاي عبد المالك الرقاني في الطريقة مدينة ولاته أربع مرات حاملا الورد والطريقة الرقانية، وذكر البرتلي: أنه أثر في الناس أيما تأثير.
وفي الختام أتمنى أني سلطت الضوء ولو بشكل بسيط على هذه الطرقة من اجل التعريف بها، كما أتمنى من الباحثين الاهتمام بالتراث الثقافي لمنطقة توات وان تتاح لي فرص أخرى لمزيد من البحث في هذا الموضوع.
ـ قائمة المصادر والمراجع:
- البرتلي الولاتي محمد أبو عبد الله الطالب بن أبي بكر الصديق: فتح الشكور في معرفة أعيان علماء التكرور, تحقيق محمد إبراهيم الكتاني ومحمد حجي, ط1، دار الغرب الإسلامي, بيروت, 1981م.
- بوباية عبد القادر: الطريقة الزيانية وتطورها التاريخي، أعمال الملتقى الدولي الحادي عشر الموسوم "التصوف في الإسلام والتحديات المعاصرة"، والمنعقد بتاريخ 09 ـ 10 ـ 11 نوفمبر 2008، الجامعة الإفريقية العقيد احمد دراية ـ ادرار، ص ص 520 ـ 350.
- تلمساني بن يوسف: الطريقة التجانية وموقفها من الحكم المركزي بالجزائر (الحكم العثماني ـ الأمير عبد القادر ـ الإدارة الاستعمارية) 1782 ـ 1900م، رسالة لنيل شهادة الماجستير في التاريخ الحديث والمعاصر، إشراف الدكتور نصر الدين سعيدوني، معهد التاريخ، جامعة الجزائر، 1997/1998م.
- التنيلاني محمد عبد القادر بن عمر: الدرة الفاخرة في ذكر ما بتوات من العلماء, مخطوط, د ر، خزانة كوسام, أدرار, الجزائر.
- جعفري أحمد: الحركة الأدبية في منطقة توات خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر الهجريين, رسالة دكتوراه في الأدب, إشراف الدكتور محمد زمري, جامعة تلمسان, 2006/2007م.
- جعفري مبارك: العلاقات الثقافية بين توات والسودان الغربي خلال القرن 12 هـ /18م، ط1، دار السبيل بن عكنون، الجزائر.
- الحنفي عبد المنعم: الموسوعة الصوفية أعلام التصوف والمنكرين عليه والطرق الصوفية، ط1، دار الرشاد، القاهرة، 1992.
- الرقادي الكنتي محمد بن مصطفى بن عمر: نبذة عن حياة الشيخ مولاي عبد الله الرقاني، مخطوط، د ر، خزانة كوسام، أدرار، الجزائر.
- رقاني محمد بن مولاي أحمد: باحث في تراث أسرة الرقاني، مقابلة شفوية، رقان يوم 16 ابريل 2017، 16:30.
- رقاني محمد: تاريخ وواقع خزانة مولاي العباس الرقاني، كتاب الندوة الأولى أولاد السي حمو بالحاج أعلام - وآثار، جمعية الدراسات التاريخية والثقافية لأولاد السي حمو بالحاج، دار الكلمة للنشر والتوزيع، المنصورية، أدرار، الجزائر، 2016.
- سعد الله أبو القاسم: تاريخ الجزائر الثقافي، ط1، 10 أجزاء، دار الغرب الإسلامي، بيروت، لبنان، 1998.
- سماعيلي مولاي عبد الله: دور الزاوية الرقانية في المقاومة الوطنية والكفاح المسلح، مداخلة في الملتقى الوطني الموسوم بالبعد الروحي للمجتمع الجزائري ودوره في تحقيق الاستقلال، تنظيم مديرية الشؤون الدينية والأوقاف لولاية أدرار، المنعقد يومي 15 ـ 16 ديسمبر 2012، بقاعة المحاضرات لدار الثقافية ولاية أدرار.
- العجم رفيق: موسوعة مصطلحات التصوف الإسلامي، ط1، مكتبة لبنان ناشرون، 1999م.
- غيتاوي مولاي التهامي: سلسلة النواة في إبراز شخصيات من علماء وصالحي إقليم توات, جزآن, ط1, المطبعة الحديثة للفنون المطبعية, الجزائر, 2001.
- قاسم عبد الحكيم عبد الغاني: المذاهب الصوفية ومدارسها, ط2, مكتبة مدبولي, القاهرة, 1999م.
- الكسنمي الطوبوي عبد القادر: كتاب البشرى شرح المرقاة الكبرى, مطبعة المنار, تونس, 1373هـ.
- الكلاباذي البخاري أبو بكر محمد بن أبي إسحاق بن إبراهيم بن يعقوب: التعرف لمذهب أهل التصوف، دار الكتب العلمية
منقول من فيسبوك مولاي عبد الله الرقاني
الطريقة الرقانية التواتية وانتشارها في أفريقيا جنوب الصحراء خلال القرنين 12 ـ 13هـ/18 ـ 19 م
مجلة الدراسات التاريخية والاجتماعية، دورية أكاديمية دولية محكمة تعنى بالقضايا التاريخية والاجتماعية، تصدر عن كلية الآداب والعلوم الإنسانية جامعة نواكشوط موريتانيا، الترقيم الوطني 1425/2014 الترقيم الدولي 2412-3501، العدد 22، 2017، ص ص 63 – 74.
شكلت الطرق الصوفية على مر العصور رباطا روحيا جمع بين الجزائر وإفريقيا جنوب الصحراء, وكانت توات في الجنوب الغربي للجزائر بمثابة البوابة التي مرت منها الكثير من الطرق الصوفية لأفريقيا, وفي مقدمتها: الطريقة القادرية، والبكائية، والتجانية، وغيرها، كما أسهمت توات في قيام بعض الطرق الصوفية مثل الطريقة الرقانية للشيخ مولاي عبد الله الرقاني المتوفى سنة 1148ه/1735م، والتي عرفت طريقها إلى إفريقيا جنوب الصحراء وكان لها مريدين وأتباع كثر خاصة في منطقة الحوض والساحل الموريتاني، وهو ما نتناوله في هذه المقالة التاريخية.
الكلمات المفتاحية: توات، الطرق الصوفية، مولاي عبد الله الرقاني، مولاي عبد المالك الرقاني، الطريقة الرقانية، إفريقيا جنوب الصحراء، السودان الغربي، ولاته.
الملخص:
The Brotherhood of Er-Reggania Et-Touatia
and its Spread in Sub-Saharan Africa during
the 13th,14th centuries H.A / 18th, 19th centuries A.D.
Keywords: Touat, Sufi Brotherhoods, Moulay Abdallah E-Reggani, Moulay Abdelmalek Er-Reggani, Er-Reggania Brotherhood, Sub-Saharan Africa, Western Sudan, Walata
Abstract
Through ages, the sufi brotherhoods have constituted a spiritual tighr that linked Algeria to Sub-Saharan states in general. The many sufi brotherhoods region of Touat had been considered the gate through which reached Africa. The leading of these brotherhoods were el-Qadiriya , el-Bekkaia, et-Tijaniya, ect. It’s worth noting that the region of Touat has contributed to the rise of some sufi brotherhoods like er-Reggania which was founded by Shaykh Moulay Abdallah Er-Reggani who died in 1148 H.A. / 1735 A.D., and which reached Sub-Saharan Africa, and had may Mudridin and disciples there, especially in the Delta and the Coast in Mauritania. The article attempts to deal with the presence of this Brotherhood in these regions focusing on its impact on society through a historical approach.
تعتبر الجزائر من أكثر المناطق غنى بالزوايا والطرق الصوفية، والتي شكلت على مر العصور إحدى وسائل التواصل الروحي والعلمي بينها وبين إفريقيا جنوب الصحراء، ومنها انتقلت الكثير من هذه الطرق إلى عموم إفريقيا، وتعد واحات توات بالجنوب الغربي الجزائري وبحكم موقعها الاستراتيجي الذي يتوسط طريق القوافل العابرة للصحراء، مركز إشعاع حضاري والبوابة التي انتقلت منها هذه الطرق نحو الجنوب، والأمثلة هنا كثيرة منها الطريقة القادرية والتي يعد المغيلي أول من أدخلها إلى توات والسودان الغربي، ونفس الشيء بالنسبة للطريقة البكائية الكنتية التي عمل الكنتيون على نشرها انطلاقا من توات، كما شهدت توات قيام بعض الطرق الصوفية ومنها الطريقة الرقانية للشيخ مولاي عبد الله الرقاني، والتي كان لها انتشار واسع في إفريقيا جنوب الصحراء.
ويتناول هذا المقال إشكالية انتشار الطريقة الرقانية التواتية وتوسعها في إفريقيا جنوب الصحراء. وتندرج تحت هذه الإشكالية عدة إشكالات فرعية منها: ما هي الطريقة الرقانية ؟ ومن هو مؤسسها ؟ وما هي منابعها والطرق التي انبثقت عنها ؟ وما هي العوامل التي كانت وراء انتشارها في إفريقيا جنوب الصحراء ؟ وما مدى إقبال الأفارقة على هذه الطريقة ؟ وتكمن أهمية الموضوع في كونه يعرفنا على الطريقة الرقانية الغير معروفة عند الكثير من الباحثين، وعلى عمق الروابط الروحية التي نسجتها هذه الطريقة بين الجزائر وإفريقيا جنوب الصحراء. ويكون تصورنا لمعالجة الموضوع وفق الخطة الآتية:
ـ مقدمة
ـ تعريف التصوف.
ـ التعريف بالطريقة الرقانية التواتية.
ـ منابع الطريقة الرقانية ومشاربها.
ـ عوامل انتشار الطريقة في إفريقيا جنوب الصحراء.
ـ انتشار الطريقة في إفريقيا جنوب الصحراء.
ـ خاتمة.
أ ـ تعريف التصوف:
اختلفت الروايات في اصل كلمة التصوف، حيث يرى البعض أنها جاءت من الكلمة اليونانية (صوفيا) والتي تعنى الحكمة. بينما يرى البعض الآخر أنها جاءت من لباس الصوف, وأنَّ أبا هاشم الكوفي هو أول من لبس الصوف, فأطلق عليه متصوفا([1])، رغم أن لبس الصوف كان موجودا قبله، حيث يروى عن الحسن البصري قوله: "لقد أدركت سبعين بدرياً ما كان لباسهم إلا الصوف"([2])، وقيل لأن الصوفي مع الله كالصوفة المطروحة في الهواء التي لا تدبير لها. وقيل انها من صُفَّة المسجد النبوي الشريف أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم والصوفي تابع لهم([3]). وَقَالَ البعض إنما سموا صوفية لأَنهم يكونون فِي الصَّفّ الأول بَين يَدي الله عز وجلّ([4]). ويرى البعض أنها جاءت من أهل الصفة وهم: فقراء المسلمين في صدر الإسلام, الذين انقطعوا للعبادة وملازمة المسجد وطلب العلم, وفيهم نزل قوله تعالى ((لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ))([5])([6]). ويرى البعض أنها من الصفاء: وهو نقاء القلب، وقيل لصفاء أسرارها ونقاء آثارها([7]).
أما تعريف التصوف فهناك تعاريف كثيرة منها: قيل للجنيد ما التصوف ؟ قال: لحوق السر بالحق، ولا ينال ذلك إلا بفناء النفس عن الأسباب، لقوة الروح والقيام مع الحق([8]). وعرفه محمد بن علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب رضي الله عنه: انه خلق فمن زاد عليك في الخلق، زاد عليك في التصوف([9]). وعرفه أبو علي الزوذباري: أنه من لبس الصوف على الصفا وأطعم الهوى ذوق الجفا، وكانت الدنيا منه على القفا، وسلك منهج المصطفى([10]). وعرفه معروف الكرخي: انه الأخذ بالحقائق، واليأس مما في أيدي الخلائق. وسئل علي بن عبد الرحيم القناد عن التصوف فقال: نشر مقام واتصال بدوام. وسأل رجل أبا يزيد عن التصوف فقال: طرح النفس في العبودية، وتعليق القلب بالربوبية، واستعمال كل خلق سنيّ، والنظر إلى الله الكلية([11]). وعرفه آخر: أنه ذكر مع إجتماع، ووجد مع استماع، وعمل مع اتباع([12]). وقال الحسن البصري في المتصوفة: قلوبهم محزونة، وشرورهم مأمونة، وحوائجهم خفية، وأنفسهم عفيفة، تسيل دموعهم على خدودهم...هم أهل تقوى، علاماتهم: صدق الحديث، والوفاء بالعهد، وصلة الرحم، ورحمة الضعفاء، وقلة الفخر والخيلاء، وبذل المعروف، وقلة المباهاة بين الناس وسعة الخلق مما يقرب إلى الله([13]). وقال الجنيد أن التصوف يبنى على ثمان خصال: السخاء، والرضا، والصبر، والإشارة، والغربة، ولبس الصوف، والسياحة، والفقر([14]).
أما الطريقة فهي من الطريق، والمقصود بها طريق السلوك إلى الله، وهو الطريق الذي يسلكه أهل التصوف، والطريق عبارة عن مراسم الله تعالى المشروعة التي لا رخصة فيها([15]).
ولطريق التصوف حسب البعض أربعة أركان هي: المحبة، والذكر، والفكر، والتسليم([16]). ويعرف الطريقة البعض أنها: السير بالسيَر المختصة بالسالكين إلى الله من قطع المنازل، والترقي في المقامات([17]).
ب ـ التعريف بالطريقة الرقانية: تنسب الطريقة الرقانية للشيخ مولاي عبد الله الرقاني([18]) المولود بقرية تاوريرت إحدى قرى توات([19]) سنة 1093هـ/1682م، أما نسبه فهو مولاي عبد الله، بن مولاي علي، بن مولاي الزين، بن مولاي محمد المعرف بسيدي حمو بالحاج، والذي دخل إلى توات في حدود 1035 ه/1626م، بن مولاي الحاج، بن مولاي محمد، بن مولاي عبد الله، بن مولاي محمد الحاج الكبير البوعامي الفيلالي، بن مولاي علي الشريف، بن مولاي الحسن، بن مولاي محمد، بن مولاي الحسن الداخل ـ سمي بذلك لأنه دخل من ينبع النخيل بجوار المدينة المنورة إلى المغرب ثم إلى تافلالت ـ ابن مولاي قاسم إمام المدينة المنورة، بن مولاي محمد، بن مولاي أبي القاسم، بن مولاي محمد، بن مولاي محمد، بن مولاي الحسن، بن مولاي الحسن، بن مولاي عبد الله، بن مولاي محمد عرفة، بن مولاي الحسن، بن مولاي أبي الحسن، بن مولاي علي، بن مولاي الحسن، بن أبي بكر، بن مولاي علي، بن مولاي الحسن، بن مولاي أحمد، بن مولاي إسماعيل، بن مولاي قاسم، بن مولاي محمد المعروف بالنفس الزكية، بن مولاي عبد الله الكامل، بن مولاي الحسن المثنى، بن مولاي الحسن السبط، بن مولاي علي بن أبي طالب وفاطمة الزهراء بنت الرسول صلى الله عليه وسلم([20]). وأمه هي عائشة بنت الحاج موسى، من أولاد حريز وكان قد تزوجها أبوه في إحدى أسفاره إلى تمبكتو([21]).
نشأ الشيخ مولاي عبد الله بقرية تاورريت عند أخواله، بعدما تركه والده في بطن أمه وعاد إلى تافلالت بالمغرب الأقصى، وعندما بلغ الشيخ مولاي عبد الله عشر سنيين أخذه ابن عمه مولاي علي إلى قصر زاوية كنته بناء على وصية والده وبرضا أمه وأخواله، وقام بتربيته وتدريسه حتى حفظ القرآن الكريم ثم أخذه عند الشيخ محمد المصطفى بن عبد المؤمن فتعلم على يده الفقه والعقيدة والتصوف، ولما مات واصل تعلمه على يد الشيخ أحمد الصوفي الرقادي شيخ الزاوية الكنتية القادرية وكان يومئذ أحد علماء توات البارزين. ولما بلغ سن الرشد أخذه ابن عمه مولاي علي مع ابنه محمد المهدي إلى قرية بوعلي ليتعلم أصول الزراعة وحفر الفقاقير والتجارة، انتقل بعدها إلى رقان التي أسس بها زاويته التي ذاع صيتها في ربوع توات, وقصده الناس من كل مكان توفي سنة 1148هـ/1735م. ليخلفه على الزاوية والطريقة ابنه وخليفته الشيخ مولاي عبد المالك الرقاني (ت1207هـ/ 1793م)([22]) والذي يعد المؤسس الثاني للطريقة الرقانية وفي عهده اشتهر أمر الزاوية برقان وذاع صيتها عرف عنه أيضا الورع والزهد، تتلمذ على والده الشيخ مولاي عبد الله الرقاني الذي أخذ عنه العلم والتصوف, قال عنه البرتلي في فتح الشكور: "القطب الرباني, والغوث الصمداني, الوالي الصالح...ساقي المريد, وعمدة أهل التوحيد, شيخ المحققين, ومربي السالكين... وبالجملة فهو في الصلاح والولاية فوق ما يذكر ... مكث اثني عشر عاما لا ينام ليلا ولا نهار, ملازما لتلاوة القرآن...اشتهر باجتهاده وكرماته، وكانت زاويته في رقان مقصدا للوافدين من كل مكان" توفي بعد صلاة الصبح من يوم السبت 14 شوال عام 1207هـ/25 ماي 1793م.
ـ منابع الطريقة الرقانية: كان الشيخ مولاي عبد الله الرقاني مؤسس الطريقة منذ صغره مولعا بالتصوف منشغلا به كثيراً، أخذ مبادئه الأولى على يد الشيخ أحمد الصوفي شيخ الزاوية الكنتية القادرية الذي أعجب به لسرعة حفظه وبداهته وشدة حرصه، وقال فيه: "سترون لهذا الشريف من ظهور الكرمات وخوارق العادات ما لا يدخل تحت الحصر"([23])، وفي زاوية كنتة تعلم أصول الدين والفقه على يد أشياخه من بني الرقاد، كما كان كثير التردد على ضريح الشيخ محمد بن عبد الكريم المغيلي القادري بزاويته ببوعلي، وفي الطريق بين بوعلي وزاوية كنته أدركته الولاية بالمكان المعروف بواد بوعلي، اتصل بعدها بالشيخ سيدي أمحمد بن أبي زيان القندسي([24])، وعنه أيضا أخذ الطريقة القادرية، ثم أخذ عنه طريقته وسلسلة أشياخه، والسلسلة الزيانية تمتد إلى الشيخ أبي الحسن الشاذلي وعبد السلام بن مشيش وأبي مدين شعيب، وأذكار الزيانية هي أذكار الشاذلية مع بعض التغيير مثلا: الاستغفار 100 مرة عند الفجر، والصلاة على الرسول مائة مرة بهذه الصيغة "اللهم صل على سيدنا ومولانا محمد وآله وصحبه وسلم"، والتشهد ألف مرة، والتسبيح مائة مرة، وذكر اسم الجلالة ألف مرة. أما ابنه وخليفته الشيخ مولاي عبد المالك الرقاني فكان يقرأ تعاليم الشاذلية من الحكم العطائية([25]). وتذكر المصادر وبعض الروايات انه وصل مرتبة الغوث، وكان يقول: "لولا أن سلسلة الورد أخذتها عن والدي، لأوصلتها للرسول مباشرة"([26]) أما ما استحدثته هذه الطريقة وتميزت به في توات فهو ورد الرماية حيث ما إن استقر الأمر لمولاي عبد الله الرقاني بزاويته حتى أسس فرقة للرماية وكان لها ورد خاص بها يتصل سنده بالشيخ محمد بن موسى الخلاص، عن بن ناصر، عن الزوبير بن العوام، عن عمر بن الشاط، عن مالك بن انس، عن المقداد، عن سعد بن أب وقاص، عن الرسول صلى الله عليه وسلم، عن جبريل عن المولى عز وجل([27]). ومن هنا يمكن القول أن الطريقة الرقانية تجمع بين عدة طرق صوفية كالقادرية([28])، والشاذلية([29])، والزيانية([30])، والطيبية([31]) والبكائية([32])، إضافة إلى التجانية([33])، حيث أن مريديها يقرؤون صلاة الفاتح لما أغلق أو الياقوتة الفريدة([34]) في ختام حلقات الذكر([35])، ولذلك يختلط الأمر في تصنيفها حسب الدكتور أبو القاسم سعد الله([36]). والذي يرى أيضا ونوافقه الرأي أن معظم الطرق الصوفية تأخذ عن بعضها البعض، وأن الأتباع يمكنهم أن يجمعوا بين عدة طرق في نفس الوقت، غير التجانية التي تشترط على أتباعها عدم الجمع بينها وبين طريقة أخرى([37]).
عوامل انتشار الطريقة في إفريقيا جنوب الصحراء: هناك عوامل كثيرة كانت وراء انتشار هذه الطريقة منها:
ـ أخلاق ومكانة الشيخ مولاي عبد الله وخليفته مولاي عبد المالك: اتسم الشيخ مولاي عبد الله بالخلق الطيب والنفس الحليمة وبالسخاء والجود، وكان مثالا في العفة والإنصاف متواضعا يزور المريدين ويتعدهم ويعطف على الفقراء والمساكين ويحنوا عليهم، عطوفا على الضعفاء والأرامل والأيتام يواسيهم ويسأل عنهم ويتفقدهم في منازلهم واحدا واحدا، وكانت تأتيه الهدايا الكثيرة فيفرقها دون أن ينظر إليها، يقابل الأعداء بوجه حسن والإساءة بالإحسان، وهذا ما حبب فيه الخلق وجعل كل من رآه يتعلق به ويصير من أتباعه، وهي نفس صفات خليفته وابنه الشيخ مولاي عبد المالك([38]).
ـ تسامح الطريقة وجمعها بين عدة طرق: عرف عن الطريقة الرقانية كما قلنا أنها جمعت بين عدة طرق فهي قادرية، شاذلية، بكائية، زيانية، تيجانية، ولم تكن تتعصب لورد معين أو طريقة معينة، وهو ما جعل الدكتور أبو القاسم سعد الله يقول أنه يصعب تصنيفها، وهذا ما ساعد في نظرنا على انتشارها حتى في المناطق التي عرف عنها أنها تيجانية مثل السنغال.
ـ القوافل التجارية: شكلت التجارة إحدى وسائل الاتصال المثمرة بين توات وعوم منطقة السودان الغربي, وفي توات كانت تجتمع القوافل من الشمال مع القوافل القادمة من بلاد السودان([39]), بوصفها نقطة عبور وممر رئيسي لهاته القوافل ولما كانت تدره من أرباح، ولهذا مارس الكثير من شيوخ الطريقة التجارة، وكان تأثير التجار كبيراً, فهم سفراء للطريقة بفضل معاملتهم, وطريقتهم المشبعة بالروح الإسلامية, وإنفاقهم بسخاء مما جعلهم يحوزون على إعجاب وثقة السكان فراحوا يقلدونهم في سلوكهم ويأخذون عنهم الطريقة والورد. ومن بين التجار الرقانيين الذين كان لهم نشاط في بلاد السودان الغربي نذكر: مؤسس الطريقة وشيخها الشيخ مولاي عبد الله الرقاني الذي تعلم التجارة من ابن عمه مولاي علي بن مولاي أمحمد، وكان يتاجر أول الأمر بأصول والده حتى صارت له ثروة كبيرة تمكن من خلالها شراء قرية انتهنت من الطوارق كلنصار وأسس بها زاويته المشهورة([40]). ووالده أيضا الشيخ مولاي علي بن مولاي الزين كان تاجرا بين تمبكتو وتفلالت وكانت له أموالا كثيرة أيضا وقصة مجيئه وزواجه بتوات معروفة([41]).
ـ ركب الحجيج: كانت توات إحدى المحطات الرئيسية لحجيج بلاد السودان الغربي, وشكل الحج فرصة سنوية مناسبة للكثير من الأفارقة لزيارة المنطقة والالتقاء بالعلماء والطلبة, وتسجل الكثير من المصادر التاريخية رحلات الحجيج التي قام بها الأفارقة عبر توات, وضمت قوافل الحجيج كثيرا من العلماء والفقهاء الأفارقة, ممن كانت لهم إسهامات وآثار بالمنطقة من دون شك, نذكر منهم على سبيل المثال: الشيخ أبو بكر بن الطالب محمد بن الطالب عمر البرتلي (ت1199هـ/1785م)([42]), وممن حج من الفقهاء الشيخ الحاج البشير بن أبي بكر بن الطالب محمد البرتلي(ت1214هـ/1799م), حج سنة 1204هـ/1789م, وله رحلة حول ذلك, يذكر فيها مراحل الطريق من توات إلى الحج([43]). وكان لحجاج السودان الغربي أماكن محددة يأتون إليها داخل توات, في أوقات معلومة من السنة, وهناك يلتقون بالطلبة والعلماء من الإقليم, ومن بين المناطق التي كانوا يزورونها زاوية رقان المقر الرئيسي للطريقة إلى جانب زاوية الشيخ سيدي علي بن حنيني بزاقلو, زاوية كنته, زاوية الركب النبوي بأقبلي بمنطقة تيدكلت([44]).
ـ إرسال العلماء والرسل: كان شيوخ الطريقة الرقانية وشيوخ توات بصفة عامة يرسلون رسلهم حاملين الورد لمناطق السودان الغربي، وفي مقدمتهم رسول الشيخ مولاي عبد المالك الرقاني لتلك المناطق, الشيخ مولاي زيدان بن محمد بن مولاي أحمد بن سيدي حم (ت1202هـ/1788م) الذي زار بلاد التكرور أربع مرات حسب البرتلي, وكان عاملا على نشر الطريقة هناك, ومن الأماكن التي كان ينزل بها ولاته([45]). كذلك من بين العلماء الذين انتقلوا إلى بلاد السودان الغربي حاملين معهم التصوف الطالب سيدي أحمد التواتي بن محمد بن عمر, من بني علي بن عبد الله, يقول عنه البرتلي: أنه كان أحد الأولياء العارفين, مداوما على الأوراد, مشتغلا بالتصوف, له خزانة مليئة بكتبه, وغيرها([46]).
ـ تنقل أبناء العائلة الرقانية والقبيلة البلحاجية إلى بلاد السودان الغربي: عرف عن أبناء العائلة الرقانية وقبيلة أبناء السي حمو بالحاج على العموم كثرة تنقلهم لبلاد السودان الغربي واستقرارهم هناك، إما بصفة دائمة أو مؤقتة، حاملين معهم الورد والطريقة عاملين على نشرهما، وأوردت لنا المصادر التاريخية تراجم للبعض منهم نذكر منهم هنا على سبيل المثال لا الحصر: مولاي السعيد بن مولاي عبد الرقاني (ت1209هـ/1795هـ) وأخوه مولاي الشريف بن مولاي عبد الله الرقاني (ت1208ه/1794م) والذي ذكر صاحب منح الرب الغفور أنهما كانا من عباد الله الصالحين والأولياء المشهورين لهما كرامات ومناقب كثيرة([47])، والشريف سيدي محمد الحاجب بن مولاي عمر بن مولاي فضيل بن مولاي هاشم بن مولاي محمد بن مولاي عبد المالك بن سيدي حم بن الحاج المتوفي سنة (1231ه/1816م)([48])، ومن الأشراف الذين سكنوا ولاته أيضا وتوفوا بها الشريف مولاي عبد القادر المعروف بعاله بن مولاي الشريف بن سيدي محمد بن مولاي عبد القادر بن سيدي حمو بن الحاج المتوفى سنة (1215ه1800م)، وكان الشريف عاله تقيا عابدا قوي الدين نصوحا للجميع لا يخاف في الله لومة لائم حسن الوجه والثياب والحديث حريصا على حق البهائم فما بالك بحقوق الناس وكان مشهور بين أهل ولاته بالبركة وقبره إلى اليوم بها بجبلها الغربي، لا يزوره أحد في حاجة إلا قضاها([49]). ومنهم الشريف الشيخ بن لخليفه بن مولاي الشريف بن سيدي محمد بن مولاي عبد القادر بن سيدي حمو بالحاج (ت1264هـ/1848م)([50])، ومنهم الشريف بن مولاي عمار بن مولاي فضيل بن مولاي هاشم بن مولاي أمحمد بن مولاي عبد المالك بن سيدي حمو بن الحاج (ت1267هـ/1851م)([51]). ومنهم المجاهد مولاي عبد الله بن مولاي العباس ووالده مولاي العباس بن مولاي عبد الله بن الشيخ مولاي عبد المالك اللذان انتقلا برهة من الزمن إلى بلاد السودان وعاشا متنقلان بين ولاته وتمبكتو لفترة من الزمن قبل أن يعودا إلى مسقط رأسهما برقان([52]).
ـ انتشار الطريقة في إفريقيا جنوب الصحراء: عرفت الطريقة الرقانية انتشارا واسعا في بلاد السودان الغربي، وذاع خبرها، وكثر ذكرها على لسان العامة من المغرب الأقصى شمالا إلى الأراضي الموريتانية إلى إفريقيا جنوب الصحراء خاصة النيجر ونيجيريا ومالي والسنغال([53])، ولم يعد نفوذها وموريدوها ينتشرون في توات الوسطى وقورارة وتيدكلت فقط بل حتى في تمبكتو والسنغال وموريتانيا، كما كان الطوارق كثيري التردد على الزاوية برقان وكان لها نفوذ كبير عليهم([54])، وكان الناس يأتون إليها من كل مكان لحل مشاكلهم وقضاء حوائجهم([55])، ومن الأماكن التي عرفت انتشارا كبيرا للطريقة مدينة ولاته والنعمة الموريتانيتين وقد زار الشيخ مولاي زيدان بن محمد بن مولاي أحمد بن سيدي حم (ت1202هـ/1788م) رسول الشيخ مولاي عبد المالك الرقاني هذه البلاد أربع مرات حسب البرتلي الولاتي حاملا معه الورد والطريقة الرقانية، ومن الأماكن التي كان ينزل بها ولاته, أين كان الناس يأتونه في الصباح والمساء للتبرك به والاستفادة منه, ويقول عنه البرتلي: أنه أثر في الناس أيما تأثير, وأعطي قدرة في الكلام فلا يناظره احد إلا أفحمه, وقد قصدته في سبعين حاجة بين الدنيا والآخرة, قضى الله لي جميع حوائج الدنيا, وأنا أرجوه قضاء حوائج الآخرة([56]). وقال فيه صاحب منح الرب الغفور أنه كان من أولياء الله العاملين الكاملين ذا جد واجتهاد، وكان سخيا كريما تقيا من كرماته طي الأرض له وتسخير الخلق وانقيادهم له فترى البخيل يعطيه نفائس ماله عن طيب خاطر، وإذا رآه احد اجتمع في قلبه الحب والخوف منه، وما قصده أحد في مسألة إلا أعطاه الله إياها، وهو من أوصل ورد الشيخ مولاي عبد المالك لأهل بلادنا([57]).
ـ خاتمة:
وفي ختام هذه المداخلة والتي حاولنا من خلالها التعريف بالطريقة الرقانية وإبراز انتشارها في إفريقيا جنوب الصحراء نخرج بمجموعة من النتائج نذكر من بينها:
ـ تعد منطقة توات في الجنوب الغربي للجزائر من أكثر المناطق غنى بالزوايا والطرق الصوفية، وقلما تجد في توات في تلك الفترة شخص لا يتبع طريقة أو زاوية.
ـ تعد توات بالجنوب وبحكم موقعها الاستراتيجي الذي يتوسط الصحراء، بوابة انتقلت منها هذه الطرق نحو الجنوب، مثل القادرية والبكائية والتجانية.
ـ شهدت توات قيام بعض الطرق الصوفية ومنها الطريقة الرقانية للشيخ مولاي عبد الله الرقاني، والتي كان لها انتشار واسع في إفريقيا جنوب الصحراء.
ـ تنسب الطريقة الرقانية للشيخ مولاي عبد الله الرقاني بن مولاي علي بن مولاي الزين بن سيدي حمو بالحاج والمتوفى سنة 1148هـ/1735م. كما يعد ابنه وخليفته الشيخ مولاي عبد المالك الرقاني المتوفى سنة 1207هـ/ 1793م المؤسس الثاني للطريقة وفي عهده عرفت طريقها نحو الجنوب على يد رسوله الشيخ مولاي زيدان.
ـ جمعت الطريقة الرقانية بين عدة طرق صوفية كالقادرية، والشاذلية، والزيانية، والطيبية، والبكائية، والتجانية، ولذلك يختلط الأمر في تصنيفها حسب الكثيرين.
ـ ساهمت عدة عوامل في انتشار هذه الطريقة في إفريقيا جنوب الصحراء منها: أخلاق ومكانة الشيخ مولاي عبد الله وخليفته الشيخ مولاي عبد المالك، وتسامح الطريقة وجمعها بين عدة طرق، والقوافل التجارية، وركب الحجيج، وإرسال العلماء والرسل، وتنقل أبناء العائلة الرقانية خاصة والقبيلة البلحاجية عامة إلى بلاد السودان الغربي.
ـ عرفت الطريقة الرقانية انتشارا واسعا في إفريقيا جنوب الصحراء، خاصة في موريتانية والنيجر ونيجيريا ومالي والسنغال، ومن الأماكن التي عرفت وجودا كبيرا للطريقة مدينة ولاته والنعمة الموريتانيتين، وقد زار الشيخ مولاي زيدان بن محمد بن مولاي أحمد بن سيدي حمو رسول الشيخ مولاي عبد المالك الرقاني في الطريقة مدينة ولاته أربع مرات حاملا الورد والطريقة الرقانية، وذكر البرتلي: أنه أثر في الناس أيما تأثير.
وفي الختام أتمنى أني سلطت الضوء ولو بشكل بسيط على هذه الطرقة من اجل التعريف بها، كما أتمنى من الباحثين الاهتمام بالتراث الثقافي لمنطقة توات وان تتاح لي فرص أخرى لمزيد من البحث في هذا الموضوع.
ـ قائمة المصادر والمراجع:
- البرتلي الولاتي محمد أبو عبد الله الطالب بن أبي بكر الصديق: فتح الشكور في معرفة أعيان علماء التكرور, تحقيق محمد إبراهيم الكتاني ومحمد حجي, ط1، دار الغرب الإسلامي, بيروت, 1981م.
- بوباية عبد القادر: الطريقة الزيانية وتطورها التاريخي، أعمال الملتقى الدولي الحادي عشر الموسوم "التصوف في الإسلام والتحديات المعاصرة"، والمنعقد بتاريخ 09 ـ 10 ـ 11 نوفمبر 2008، الجامعة الإفريقية العقيد احمد دراية ـ ادرار، ص ص 520 ـ 350.
- تلمساني بن يوسف: الطريقة التجانية وموقفها من الحكم المركزي بالجزائر (الحكم العثماني ـ الأمير عبد القادر ـ الإدارة الاستعمارية) 1782 ـ 1900م، رسالة لنيل شهادة الماجستير في التاريخ الحديث والمعاصر، إشراف الدكتور نصر الدين سعيدوني، معهد التاريخ، جامعة الجزائر، 1997/1998م.
- التنيلاني محمد عبد القادر بن عمر: الدرة الفاخرة في ذكر ما بتوات من العلماء, مخطوط, د ر، خزانة كوسام, أدرار, الجزائر.
- جعفري أحمد: الحركة الأدبية في منطقة توات خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر الهجريين, رسالة دكتوراه في الأدب, إشراف الدكتور محمد زمري, جامعة تلمسان, 2006/2007م.
- جعفري مبارك: العلاقات الثقافية بين توات والسودان الغربي خلال القرن 12 هـ /18م، ط1، دار السبيل بن عكنون، الجزائر.
- الحنفي عبد المنعم: الموسوعة الصوفية أعلام التصوف والمنكرين عليه والطرق الصوفية، ط1، دار الرشاد، القاهرة، 1992.
- الرقادي الكنتي محمد بن مصطفى بن عمر: نبذة عن حياة الشيخ مولاي عبد الله الرقاني، مخطوط، د ر، خزانة كوسام، أدرار، الجزائر.
- رقاني محمد بن مولاي أحمد: باحث في تراث أسرة الرقاني، مقابلة شفوية، رقان يوم 16 ابريل 2017، 16:30.
- رقاني محمد: تاريخ وواقع خزانة مولاي العباس الرقاني، كتاب الندوة الأولى أولاد السي حمو بالحاج أعلام - وآثار، جمعية الدراسات التاريخية والثقافية لأولاد السي حمو بالحاج، دار الكلمة للنشر والتوزيع، المنصورية، أدرار، الجزائر، 2016.
- سعد الله أبو القاسم: تاريخ الجزائر الثقافي، ط1، 10 أجزاء، دار الغرب الإسلامي، بيروت، لبنان، 1998.
- سماعيلي مولاي عبد الله: دور الزاوية الرقانية في المقاومة الوطنية والكفاح المسلح، مداخلة في الملتقى الوطني الموسوم بالبعد الروحي للمجتمع الجزائري ودوره في تحقيق الاستقلال، تنظيم مديرية الشؤون الدينية والأوقاف لولاية أدرار، المنعقد يومي 15 ـ 16 ديسمبر 2012، بقاعة المحاضرات لدار الثقافية ولاية أدرار.
- العجم رفيق: موسوعة مصطلحات التصوف الإسلامي، ط1، مكتبة لبنان ناشرون، 1999م.
- غيتاوي مولاي التهامي: سلسلة النواة في إبراز شخصيات من علماء وصالحي إقليم توات, جزآن, ط1, المطبعة الحديثة للفنون المطبعية, الجزائر, 2001.
- قاسم عبد الحكيم عبد الغاني: المذاهب الصوفية ومدارسها, ط2, مكتبة مدبولي, القاهرة, 1999م.
- الكسنمي الطوبوي عبد القادر: كتاب البشرى شرح المرقاة الكبرى, مطبعة المنار, تونس, 1373هـ.
- الكلاباذي البخاري أبو بكر محمد بن أبي إسحاق بن إبراهيم بن يعقوب: التعرف لمذهب أهل التصوف، دار الكتب العلمية
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى