تاج العروس الحاوي لتهذيب النفوس الجزء الثاني
تاج العروس الحاوي لتهذيب النفوس الجزء الثاني
واعلم أن السماء والأرض لتتأدب من الولي كما يتأدب معه بنو آدم .
فمن فرح بالدنيا إذا جاءته فلقد ثبت حُمقه ، وأحمق منه من إذا فاتته حزن حزن عليها . فمثالك كمن جاءته حية لتلدغه ، ثم مضت وسلمه الله تعالى منها ، فحزن عليها أن لم تضره .
من علامات الغفلة وصغر العقل : أن تعول هما هل يقع أم لا ، وتترك أن تعول هما لابد من وقوعه ، وتصبح وتقول : كيف يكون السعر غدا ، وكيف يكون الحال في هذه السنة ، وألطاف الله تأتي من حيث لا تعلم والشك في الرزق شك في الرازق ، وما سرق السارق وما غضب الغاضب
إلا رزقه ، فما دمت حيا لا ينقص من رزقك شيء .
كفى بك جهلا أن تعول الهم الصغير ، وتترك الهم الكبير . عُل هم : هل تموت مسلما أو كافرا ؟ عُل هم : هل أنت شقي أم سعيد ؟ عُل هم: النار الموصوفة بالأبدية التي لا إنتهاء لها! عُل هم أخذ الكتاب ياليمين أو بالشمال . هذا هو الهم الذي يُعال ، لا تعل هم اللقمة تأكلها أو شربة
تشربها . أيستخدمك الملك ولا يُطعمك ؟! أتكون في دار الضيافة وتضيع ؟!.
إن أحب ما يُطاع الله به : الثقة به .
لأن تكون خاملا في الدنيا خير لك من أن تكون خاملا يوم القيامة - المجهول من الناس الذي لا يُذكر - .
هذه صفاوة العمر وغربلته ، يا من لا يأكل الحنطة إلا مغربلة لا بد أن يُغربل عملك فلا يبقى لك إلا ما أخلصت فيه وما عدا ذلك يُرمى ، وما أكثر ما يُخشى عليك مخالطة الناس ، ولا يكفيك أن تسمع بأذنيك بل تشاركهم في الغيبة ، وهي تُنقض الوضوء وتفطر الصائم .
كفى بك جهلا أن تغار على زوجتك ولا تغار على إيمانك ! كفى بك خيانة أن تغار عليها لأجل نفسك،
ولا تغار على قلبك لأجل ربك ، إذا كنت تحفظ ما هو لك ألا تحفظ ما هو لربك ؟!
إذا رأيت من يصبح مهموما لأجل الرزق فاعلم أنه بعيد من الله ، فإنه لو قال لك مخلوق: لا تشتغل غدا بسبب ، وأناأعطيك خمسة دراهم ، وثقت به وهو مخلوق فقير ، أفما تكتفي بالغني
الكريم الذي ضمن لك رزقك من أجلك ؟!
قال الشاعر :
إذا العشرون من شعبان ولت فواصل شُرب ليلك بالنهار
ولا تشرب بأقداح صغار فقد ضاق الزمانُ على الصغار
فمعناه عنده: إذا مضت العشرون من شعبان فقد قرب رمضان يقطع علينا الشراب . ومعناه عند أهل الطريق : إذا خلفت أربعين سنة وراء ظهرك
فواصل العمل الصالح بالليل والنهار ، لأن وقت قد قرب إلى لقاء الله عز وجل ، فليس عملك كعمل من كان شابا ولم يضيع شبابه ونشاطه ، وأنت قد ضيعت شبابك ونشاطك .
هب أنك تريد الجد ولكن لا تساعدك القُوى ، فأعمل على قدر حالك ورقع الباقي بالذكر فإنه لا شيء أسهل منه ، يُمكنك في حال القيام والقعود والإضطجاع والمرض ، فهذا أسهل العبادات وهي التي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" وليكن لسانك رطبا بذكر الله ".
وأي دعاء أو ذكر سهل عليك فواظب عليه ، فإن مدده من الله عز وجل ، فما ذكرته إلا ببره ، وما أعرضت عنه إلا بسطوته وقهره ، فاعمل واجتهد فالغفلة في العمل خير من الغفلة عنه .
ترى حالك حال الزاهدين في الفضل ، لأن الطالب لا ينقطع عن الأبواب بل تجده واقفا عليها ، فمثاله كالثكلى التي مات ولدها
أتراها تحضر العرس والأفراح والولائم ؟! بل هي مشغولة بفقد ولدها .
وكم يرسل لك المولى الصنائع وأنت عبدٌ سرود ، فمثالك كالطفل في المهد كلما حُرك نام . ولو أرسل لك الملك خلعة - العطية - ما أصبحت إلا على بابه ، فاغتنم أوقات الطاعات
واصطبر عليها .
إن طلبت أن تعصيه فاطلب مكانا لا يراك أحدٌ ، واطلب قوة من غير أن تعصيه بها ، ولن تستطيع شيئا من ذلك لأن الكل من نعمه ، أتأخذ نعمه وتعصيه بها ؟! بل تفننت في المخالفات ، مرة بالغيبة ومرة بالنميمة
ومرة بالنظر وما بنيته في سبعين سنة تهدمه في نفس واحد .
يا هادم الطاعات ... ما سلط الله عليك الفاقة إلا لترفع حالتك إليه ، ولتجمع عليه ، فيا من يُغرق نفسه بالشهوات والمعاصي ، ليتك أعطيتها ذلك في المباحات ، فمن عاملته بالدنايا وعاملك بالمنن كيف لا تُحبه ؟ من عاملك بالكرم وعاملته باللؤم كيف لا تحبه ؟!.
ما أحد يصحبك فينفعك ، وكل من يصحبك إنما يصحبك لنفسه ، وإنما تحبك الزوجك لتجتني منك مطايب العيش والملابس ، وكذلك الولد يقول: أشدُ بك ظهري فإذا كبرت ولم تبق فيك قوة ولا بقية رفضوك !!.
لو انقطعت عن الخلق لفتح الله لك باب الأنس به تعالى ، لأن أولياء الله قهروا أنفسهم بالخلوة والعُزلة ، فسمعوا من الله وأنسوا به ، فإن أردت أن تستخرج مرآة قلبك من الأكدار فارفض ما رفضوا - وهو الأنسُ بالخلق - وانس ما جرى لفلان واتفق لفلان ؟ ولا تقعد على أبواب الحارات فمن استعد استمد ، فإذا هيأ لك الإستعداد
فتح لك باب الإستمداد ، ومن أحسن قرع الباب فُتح له ، فرب طالب أساء قرع الباب فرُد لسوء أدبه ولم يُفتح له .
أكثر ما أوتي العباد من قلة الصمت . فو تقربت إلى الله لسمعت مخاطبته على الدوام ، في سوقك وفي بيتك،
ولكن من استيقظ شهد ، ومن نام لم تسمع أذنا قلبه ، ولم تشهد بصيرته ، ولكن الحجاب مُرخى ، ولو أن العباد فطنوا لم يُقبلوا إلا على الله ، ولم يجلسوا
إلا بين يديه ، ولم يستفتوا غيره ، لقوله صلى الله عليه وسلم " استفت قلبك وإن أفتوك " لأن الخواطر الإلهامية تأتي من الله تعالى فهي موافقة ، وربما أخطأ
المفتي والقلب لا يقبل الخطا ، وهذا مخصوص بالقلوب الطاهرة ، وإنما يُستفتى عالم ، ولا علم لمن غفل عن الله تعالى .
كانوا رضي الله عنهم لا يدخلون في شيء بنفوسهم ، ولكن من الله وبالله ، وإن المسافة بعجت بين الأولياء والصحابة ، فجعُلت الكرامات جبرا لما فاتهم من قُرب المتابعة التامة ،
فإن من الناس من يقول : إن الأولياء لهم الكرامات ، والصحابة لم يكن لهم ذلك . بل كانت لهم الكرامات العظيمة ، بصحبتهم له صلى الله عليه وسلم ، وأي كرامة أعظم منها ؟!
واعلم أن كل صلاة لا تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر لا تُسمى صلاة لقوله تعالى " إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر " وأنت تخرج من الصلاة ومن مناجاة الحق سبحانه وتعالى في قوله
" إياك نعبد وإياك نستعين " ومناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم بقولك " السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته " وهذا في كل صلاة ثم تخرج إلى الذنوب بعد هذه النعم التي أنعم الله بها عليك؟
عن الشيخ أبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه ، أنه كان يحضره عنده فقهاء الإسكندرية
والقاضي ، فجاؤوا مرة مختبرين للشيخ ، فتفرس فيهم وقال : يا فقهاء يا فقهاء ! هل صليتم قط؟
قالوا: يا شيخ وهل يترك أحدنا الصلاة؟؟! فقال لهم : قال الله تعالى " إن الإنسان خُلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين " فهل أنتم كذلك:إذا مسكم الشر
لا تجزعوا وإذا مسكم الخير لا تمنعوا؟ فسكتوا جميعا ، فقال لهم الشيخ : فما صليتم هذ الصلاة قط .
إن تفضل عليك بالتوبة فتبت إليه فمن تفضله سبحانه وتعالى ، وإنك تُذنبُ سبعين سنة فتتوب إليه في نفس واحد ، فيمحو ما عملته في تلك المدة .
" التائب من الذنب كمن لا ذنب له " فالمؤمن كلما ذكر ذنبه حزن ، وكلما ذكرطاعته فرح .
قال لقمان الحكيم: المؤمن له قلبان ، يرجو بأحدهما ويخاف بالآخر: يرجو قبول عمله ويخاف ألا يُقبل منه ، ولو وُزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا .
من أراد رؤية الله فعليه بقيام أوامر الله .
إذا اطلعت على زوجتك بخيانة فإنك تغضب عليها ، فكذلك نفسك قد خانتك في عمرك ، وأجمع العقلاء على أن الزوجة إذا خانت لا يلأويها زوجها بل يُطلقها ، فطلق نفسك .
سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أكثر ما يُدخل الجنة ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : تقوى الله وحُسن الخُلُق . فقيل له فما أكثر ما يُخل الناس النار ؟ فقال : الأجوفان : الفم والفرج . فاغسل قلبك بالندم على ما فاتك من الله عز وجل .
غلطوا - والله - في النواح على زوجة أو زوج ، أو والد أو ولد ، بل كان من حقهم أن يُقيموا النواح على فقدانهم تقوى الله من قلوبهم .
تُقهقه بالضحك كأنك قد جاوزت الصراط المستقيم وعبرت النيران؟
إذا لم يكن بينك وبين الله ورعٌ يحتجزك عن معاصي الله إذا خلوت وإلا فضع التراب على رأسك
لقوله : من لم يكن له ورع يحتجزه عن معاصي الله إذا خلا ، لم يعبأ الله
بشيء من عمله .
لا شيء يُخجلك يوم القيامو مثل درهم أنفقته في حرام .
ليس الشأن في من يرفق بك إذا وافقته ، بل الشأن في من يرفق بك إذا خالفته ، ومما يُخاف عليك موالات الذنوب ليستدرجك فيها ،
ويُمكنك منها . قال الله تعالى " سنستدرجهم من حيثُ لا يعلمون ".
إن كانت معك عنايته ينفعك القليل ، وإن لم تكن لك عناية منه لم ينفعك الكثير . لو كشف عنك الحجاب لرأيت كل شيء ناطقا مسبحا لله تعالى، ولكن النقص فيك والحجاب منك .
ما أكثر احتراسك على بدنك ، وما أرخض دينك عليك ! لو قيل لك : إن هذا الطعام مسموم لأمتنعت منه ، ثم لو حُلف لك بالطلاق أنه ليس بمسموم لتوقفت عنه ، بل لو غسلت الوعاء الذي هو فيه مرارا لنفرت منه نفسُك ، فلم تكن كذلك في دينك ؟!.
وكم لله عليك من أيادي أكثر من أمك ! إنها إذا أخذتك وأنت صغير تُلبسُك أحسن الملابس ، فإن وسختها تخلع عليك ثيابا تخلع عليك ثيابا أُخر في الوقت ، وأنت تأتي إلى مملكة مزينة ، ليس فيها موضع شبر إلا ويصلح للسجود عليه ، تُتلف ثوبك وتوسخه بالمعصية ، هكذا فعلك ، تجلى
عليك المحاسن فتجعل فيها ما يُكدرها من المعصية !.
ليس كل من صحب الأكابر اهتدى بصحبتهم ، فلا تجعل صحبة المشايخ علة في أمنك ، فمن اغتر بالله فقد عصاه ،
لأنك أمنت عقوبته . كما يقول الجاهل : صحبت سيدي فلانا ورأيت سيدي فلانا ، ويدعون بدعاوي كلها كاذبة باطلة ، بل كان يبنغي لهم أن تزيدهم صحبة المشايخ خوفا ووجلا ، فقد صحب الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانوا أكثر وجلا وخوفا .
رد: تاج العروس الحاوي لتهذيب النُفوس
وربما كان الغنى دفعا والفقر جمعا ، لأن الفاقة تُحوجك أن تتضرع إلى الله ، ولفاقة تجمعك على الله خير من غنى يقطعك عنه .
كما أُمرت أن تُعرض عمن عصى وتدعو له في الغيبة . والناس اليوم على العكس ، وما عسى أن ينفعك صومك وصلاتك وأنت تقع في عرض أخيك المسلم ؟! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" جددوا إيمانكم بقول : لا إله إلا الله ."
فدل ذلك على أنه يُحصل له غبار المعصية ودنس المخالفة ، وما كل المخالفة ، وما كل غش يُطهره الماء ، بل رُب غش لا يُطهره إلا النار ، كالذهب إذا كان فيه الغش ، فكذلك العصاة من هذه الأمة لا يصلحون لدخول الجنة حتى تُطهرهم النار .
لا يُحسد إلا عبدٌ قد لُف في ملابس التقوى ، هذا هو العيش وما أطيب عيش المحب مع الحبيب إذا لم يطلع عليه رقيب ! فإن أحب أن يطلع عليه رقيب فما صدق في حُبه ، وكل من أراد أن يعلم أحد بحاله فقد خُدع .
ولا تكن كأرباب الدنيا الذين طلقتهم الدنيا ، بل كن من الذين طلقوها وفارقوها قبل افتراقهم . فمثالك إذا آثرت الدنيا على الآخرة كمن له زوجتان : إحداهما عجوز خائنة ، والأخرى شابة وفية ، فإذا آثرت العجوز الخائنة على الشابة الوفية أفما تكون أحمق ؟!.
ربما قضى عليك بالذنب ليُخرج منك الكبر والعُجب فقد رُوي : رُب ذنب أدخل صاحبه الجنة .
يُصلي الرجل ركعتين فيعتمد عليهما ، ويركن إليهما ويُعجب بهما ، فهذه حسنة أحاطت بها سيئات ، وآخر يفعل المعصية فتكسبه الذلة والإنكسار وتُديم المسكنة والإفتقار ، فهذه سيئة أحاطت بها حسنات .
كفى بك جهلا نظرك إلى إساءة صغيرة من غيرك ، وتعاميك عن كبير إساءتك .
لا تنتقد على الناس بظاهر الشرع ولا تنكر عليهم ، فلو خوطب الناس اليوم بما كانت عليه الصحابة والسلف الصالح لم يستطيعوا لأن أولئك حُجج الله على خلقه .
مثال الدنيا عند أرباب البصائر كجيفة أدخلت الكلاب خراطيمها فيها ، أرأيت إذا غمس رجل فمه في جيفة أفما تعيب عليع ؟ فإذا كان الحق سبحانه وتعالى قد جعل ميزانا للبيع والشراء أفما جعل ميزانا للحقائق ؟!.
المتنجس القدم لا يصلح للمحاضرة ، فكيف بمن تنجس فمه ؟.
من خان هان ، قيمة اليد خمسمئة دينار ، فإذا خانت قُطعت في ربع دينار (( قال أحدهم مشككا : يدٌ بخمس مئين عسجد وُديت ما بالها قُطعت في ربع دينار ... فأجيب : عز الأمانة أغلاها وأرخصا ذل الخيانة فافهم حكمة الباري . وعندما سُئل ابن الجوزي عن هذا قال : لما كانت أمينة كانت ثمينة ، فلما خانت هانت .)) ومن تجرأ على صغيرة وقع في الكبيرة .
اعرف كمائن نفسك ولا تثق بها ، إذا قالت لك : تزور فلانا فربما رُحت إلى نار تتأجج ترمي نفسك فيها عمدا فإنما هذا زمان اجتماع ، قلما تجلس مجلسا إلا وتعصي اللع فيه ، فكثيرٌ من السلف آثروا الجلوس في بيوتهم ، وتركوا صلاة الجماعة ، فإن طالبتك النفس بالخروج فاشغلها بالقعود في الدار بشيء من الطاعة ، فإن الغيبة أشد من ثلاثين زنية في الإسلام ، ولكن الكلاب لا ترقد في دار عالية الحيطان بل على المزابل .
من أراد أن ينظر إلى أمثلة القلوب فلينظر إلى الديار : فدار عامرة مأهولة ودار قد خربت حتى بقيت مبولة للبوالين ، وقلب كالدكان العامرة ، وقلب كالكان الخراب لا تطهر حتى تُعامل الله ، فتصدق كل يوم ولو بربع درهم أو بلقمة ، حتى يكتبك الله في ديوان المتصدقين ، واتل من القرآن كل يوم ول آية ، حتى يكتبك الله في ديوان التالين ، وصل في الليل ولو ركعتين ، حتى يكتبك الله مع القائمين . وإياك تغلظ وتقول : من عنده قوت يوم بيوم كيف يتصدق ؟ قال الله تعالى :" لينفق ذو سعة من سعته ومن قٌدر عليه رزقه فلينفق مما آته الله ". فمثال المسكين إذا تصدق عليه كالمطية تحمل زادك إلى الآخرة .
من أراد النهايات فعليه بتصحيح البدايات .
من صدق مع الله كفاه الله مضرة الأعداء ، وحمل مؤنة الأرداء لأنه قد هان كل الهوان من احتاج إلى الخلق .
أتظن ان الدواء حلوى تأكلها ؟ إن لم تهجم عليه هجما لم يُحصل لك الشفاء ، فاهجم على التوبة ةلا تغلبنك حلاوة المعصية ،وإذا رأيت نفسك متطلعة إلى الشهوة فاهرب إلى الله واستعث به فإنه يُنجيك منها
بدل ما تقول : أين أصحاب الخطوة ؟ أين الأولياء ؟ أين الرجال ؟ قُل أين البصيرة ؟ هل يصلح للمتلطخ بالعذرة أن يرى بنت السلطان ؟!.
عن الشيخ مكين الدين الأسمر رضي الله عنه أنه قال : كنت في الأسكندرية فرأيت شمسا قد طلعت مع الشمس فتعجبت من ذلك ، فدنوت منه فإذا شاب قد خط عذاره - نبت شعر لحيته - قد غلب نوره على نور الشمس فسلمت عليه فرد علي السلام ، فقلت له : من أين أنت ؟ قال : صليت الصبح في المسجد الأفصى ببيت المقدس وأصلي الظهر عندكم والعصر بمكة والمغرب بالمدينة ! فقلت له : تكون ضيفي . قال : لا سبيل إلى ذلك ، ثم ودعني وانصرف .
من أكرم مؤمنا فكأنما أكرم الله ، ومن آذى مؤمنا فقد أذى سيده ومولاه فإياك أن تؤذي مؤمنا فإن نفسك قد امتلأت بمساويها فيكفيها حملك .
وما مثلك إلا كالبصلة إذا قُشرت خرجت كلها قشورا .
إذا أردت تنظيف الماء قطعت عنه أسبابه الخبيثة ، فمثال الجوارح كالسواقي تجري إلى القلب ، فإياك أن تسقي قلبك بالرديء كالغيبة والنميمة والكلام السيء والنظر إلى ما لا يحل ، وغير ذلك ، فإن القلب لا يحجبه ما خرج منه ، وإنما يحجبه ما اقام فيه ، فإستنارة القلب : بأكل الحلال والذكر وتلاوة القرآن وصونه عن النظر إلى الكائنات المباحات والمكروهات والمحرمات . فلا تطلق صائد بصرك إلا لمزيد علم أو حكمة . عوض ما تقول : هذه المرآة صدئت ، قل: عيني بها رمد .
يكون بك حب الرياسة والجاه وغيرهما وتقول : الشيخ ما يجذب قلوبنا . قل : العائق مني.
لو استعددت في أول يوم لما أحتجت إلى حضور مجلس ثان ، وإنما أحتجت إلى التكرار لقوة صدأ قلبك ، حتى تكون لكل جلسة صقلة .
عليك بالحوالة - حول أمورك كلها إلى الله وأطلبها منه وحده - على مولاك واترك من لا يستطيع أن ينفع غيره .
إقطع إياسك من الخلق ، ووجه رجاءك إلى الملك الحق ، وانظر : ماذا عملك ؟ وماذا عمل معك من اول نشأتك ؟ ما صنع معك إلا جوادا وإحسانا ، وانظر مذا صنعت معه فلا ترى إلا جفاء وعصيانا .
ما اكثر موالاتك للمخلوقين وما أقل موالاتك لله !!
جوارحك غنمك وقلبك هو الراعي والله هو المالك فإن رعيتها في المرعى الخصيب حتى أرضيت المالك ، استوجبت الرضى ، وإن رعيتها في المرعى الوخيم حتى أعجف - صار هزيلا ونحيلا - أكثرها ، ثم جاء الذئب فأخذ بعضها استوجبت العقوبة من المالك ، فإن شاء انتقم منك ، وإن شاء عفا عنك . فجوارحك إما أبواب إلى الجنة ، وإما أبواب إلى النار . فإن صرفتها فيما يرضاه كنت ساعيا في طريق الجنة ، وإلا كنت ساعيا في طريق النار . فهذه موازين الحكمة فزن بها عقلك كما تزن بها الأشياء المحسوسات ، فإن أردت أن تعرف كيف تمر على الصراط فأنظر حالك في الإسراع إلى المساجد ، فيكون جزاء الذي يأتي المسجد قبل الأذان أن يمر على الصراط كالبرق الخاطف والذي يأتي في أول الوقت يمر عليه كأجاويد الخيل . وها هنا صراط الإستقامة لا يُشهد بالأبصار ، ولكن تشهده بالقلوب ، قال الله تعالى :" وأن هذا صراطي مُستقيما فاتبعوه " .ولم يُشر إلا إلى موجود ، فمن أضاءت له الطريق يتبعها ، ومن كانت طريقه مظلمة لم يشهدها فيبقى متحيرا ، فإن كنت قد أطلقت سمعك وبصرك ولسانك بُرهة من عمرك فقيد الآن ما أطلقت ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" يدخل فقراء المؤمنين الجنة قبل الأغنياء بخمسمئة عام " . وذلك لأنهم سبقوا في الدنيا بالعبادات ، وأنت تترك الجماعة وتصلي وحدك ، وإذا صليتها نقرتها نقر الديك ، وهل يُهدى للملوك إلا ما حسن وأنتخب ؟ فما سبق الفقراء إلى الجنة إلا لأنهم سبقوا إلى خدمة المولى في الدنيا ، والمراد بالفقراء : الصبر الذين صبروا على مُر الفاقة ، حتى إن أحدهم ليفرح بالشدة كما تفرح أنت بالرخاء ، فدخول الفقراء الجنة قبل الأغنياء يدل على صبرهم على الفاقة .
كفى بك جهلا أن تتردد إلى المخلوق ، وتترك باب الخالق ! فقد ارتكبت المعاصي من كل جانب ، أفلا تكون محزونا على نفسك ؟ والعجب كل العجب من عبد يُقبل على صُحبة نفسه ولا يأتيه الشر إلا منها ، ويترك صحبة الله ولا يأتيه الخير إلا منه .
فإن قيل : كيف الصحبة لله ؟ فاعلم أن صحبة كل شيء على حسبه : فصحبة الله تعالى بإمتثال أوامره واجتناب نواهيه وصحبة الملكين بأن يُمليهما الحسنات وصحبة الكتاب والسنة أن يعمل بهما ، وصُحبتك السماء بالتفكر فيها ، وصُحبتك الأرض بالإعتبار لما فيهما
وليس من لازم الصحبة وجود الرتبة ، فالمعنى في صحبة الله صحبة أياديه - النعم والآلاء - ونعمه : فمن صحب النعم بالشكر وصحب البلايا بالصبر ، وصحب الأوامر بالإمتثال ، والنواهي بالإنزجار ، والطاعة بالإخلاص - فقد صحب الله تعالى ، فإذا تمكنت الصحبة صارت خلة - المودة والصداقة - .
إياك أن تقول : ذهب الخير وانطوى بساطه ، فلسنا نريد من يُقنط الناس من رحمة الله ويُؤيسهم منه تعالى ، ففي زبور داود عليه السلام ، أرحم ما أكون بعبدي إذا أعرض عني . فرُب مطيع هلك بالعُجب ، ورُب مذنب غُفر له بسبب كسر قلبه .
عن الشيخ مكين الدين الأسمر أنه قال : رأيت بالإسكندرية عبدا مع سيده وعليهما لواءٌ قد أطبق ما بين السماء والأرض ، فقلت : يا تُرى هذا اللواء للسيد أم للعبد ، فتبعتهما حتى اشترى له سيده حاجة وفارقه ، فلما ذهب العبد ذهب اللواء معه ، فعلمت أنه وليٌ من أولياء الله تعالى ، فجئت إلى سيده وقلت له : أتبيعني هذا العبد ؟ فقال : لماذا ؟ فما زال بي حتى ذكرت له أمره ، فقال لي : يا سيدي ، الذي تطلبه أنت: أنا أولى به ، وأعتقه وكان وليا كبيرا .
فمنهم من يعرف الأولياء بالشم من غير وجود طيب ، ومنهم من يعرفهم بالذوق ، إذا رأى وليا ذاق طعم الحلاوة في فمه ، وإذا رأى صاحب قطيعة ذاق طعم المرارة المرارة في فمه .
من لم يترك المحرمات لم ينفعه القيام بالواجبات من لم يحتم لم ينفعه الدواء .
ما أقل بركة مال وقعت فيه أيدي الناهبين ! فهذا - والله - عُمُرُ الغافلين منهوب .
مثال الدنيا كعجوز جذماء برصاء ، سُترت بثوب حرير ، فالمؤمن نافرٌ ومُنفر عنها لإنكشافها له ، وما لبس أحدٌ لباسا أنتن من لباس الدعوى بأن يقول في المخاصمة : أنت مثلي ؟وأنت يصلح أن تكلمني ؟ومن أنت حتى أكلمك ! فأول من هلك بذلك أبليس ، فإياك وهذا ولو كان أعرج أجذم أجرب فلا تحقره ، لحرمة لا إله إلا الله في قلبه ، وحسن ظنك بكل أحد تُفلح ، أتحسب أن حُسن الخلق هو أن يكون الإنسان حسن الملتقى ، ومن أكرم الناس وضيع حقوق الله تعالى ؟ ليس هذا بحخُلق حسن ، بل لا يكون العبد ممدوحا بحُسن الخلق حتى يكون قائما بحقوق الله تعالى ، وقائما بأحكامه ، مستسلما لأوامر الله ، مجتنبا لنواهيه ، فمن منع نفسه معاصي الله ، وأدى حقوق الله فقد حسن خُلقه .
ما سلط الله عليك ألسنة العباد إلا لترجع إليه . ألا ترى : لا توال لك قيمة عند الله حتى تعصي ، فإذا عصيت فلا قيمة لك . التقوى هي ترك معصية الله حيث لا يراك أحد .
كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا شرب الماء قال : الحمدلله الذي جعله عذبا فراتا برحمته ولم يجعله أجاجا بذنوبنا . وهو صلى الله عليه وسلم مقدس عن الذنوب ولكن تواضعا منه وتعليما وكان يمكنه أن يقول : بذنوبكم ، وما أكل الرسول ولاشرب إلا ليعلمنا الأدب وإلا فكان عليه الصلاة والسلام يُطعم ويُسقى ، فالعارف يُنكس رأسه إذا شرب وربما تقطر عيناه بالدموع ويقول : هذا تودد من الله تعالى .
كان بعضهم لا يخرج لصلاة الجماعة لما يتعرض له في طريقة ، منهم مالك بن أنس رضي الله عنه ، لأن الجماعة ربح والربح لا يُحسب إلا بعد الإطاحة على رأس المال .
لا تحسب السباع في البرية بل السباع في الأسواق والطرق وهي التي تنهش القلوب نهشا .
مثال من يُكثر الذنوب والإستغفار كمثل من يُكثر شُرب السُم ، ويُكثر استعمال الترياق ، فيقال له : قد لا تصل إلى الترياق مرة ، فيهجم عليك الموت قبل الوصول إليه .
من مرض قلبه مُنع أن يلبس التقوى ، فلو صح قلبك من مرض الهوى والشهوة تحملت أثقال التقوى ، فو صح قلبك من مرض الهوى والشهوة تحملت أثقال التقوى ، فمن لم يجد حلاوة الطاعة دُل على مرض قلبه من الشهوة ، وقد سمى الله تعالى الشهوة مرضا بقوله تعالى : " فيطمع الذي في قلبه مرض ".ولك في علاجه طريقان : استعمال ما هو نافع وهو الطاعة ، واجتناب ما هو لك مُضر وهو المعصية . فإن فعلت ذنبا وأعقبته لالتوبة والندم والإنكسار والإنابة كان ذلك سبب وصلتك به ، وإن فعلت طاعة وأعقبتها بالعجب والكبر كان ذلك سبب القطيعة عنه .
عجبا لك كيف تطلب صلاح قلبك ، وجوارحك تفعل ما شاءت من المحرمات كالنظر والغيبة والنميمة وغير ذلك ؟ فمثالك كمن يتداوى بالسم أو كمن أراد تنظيف ثوبه بالسواد ، فعليك بالخلوة والعزلة ، فمن كانت العزلة دأبه كان العز له ، فمن صدقت عُزلته ظفر بمواهب الحق له بالمنن ، وعلامتها : كشف الغطاء وإحياء القلب وتحقيق المحبة ، فعليك بحسن العمل لا بكثرته : فمثال كثرة العمل مع عدم الحُسن فيه كالثياب الوضيعة الثمن ، ومثال قلة العمل مع حُسنه كالثياب القليلة الرفيعة الثمن ، كالياقوتة : صغيرٌ جرمها مثير ثمنها . فمن أشغل قلبه بالله ، وعالجه مما يطرأ عليه من الهوى كان أفضل ممن يُكثر من الصلاة والصيام .
مثال من صلى الصلاة بغير حضور قلب كمن أهدى للملك مئة صندوق فارغة فيستحق العقوبة من الملك ، ومن صلاها بحضور القلب كان كمن أهدى له ياقوتة تساوي ألف دينار ،فإن الملك يذكره عليها دائما .
إذا دخلت في الصلاة فإنك تناجي الله تعالى وتُكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنك تقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته . ولا يُقال أيها الرجل عند العرب إلا لمن يكون حاضرا.
ركعتان بالليل خير من ألف بالنهار ، وأنت لا تصلي فيه ركعتين إلا لتجد ذلك في كيزانك ، وهل يُشترى العبد إلا للخدمة؟ هل رأيت عبدا يُشترى ليأكل وينام ؟ وما أنت إلا عبد أشتُريت . قال الله تعالى " إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ "
من لم يُلزم نفسه لزمته ، ومن لم يطالبها طالبته ، فلو جعلت عليها الأثقال بالطاعة لما طالبتك بالمعصية ، ولما كانت تتفرغ لها . هل رأيت الصالحين والعُباد يتفرجون في الأعياد ؟ من شغل نفسه بالمباحات والفرح شُغل عن قيام الليل ، فيقال له : شغلت نفسك عنا فشغلناك عن عبادتنا .
ركعتان في جوف الليل أثقل عليك من جبل أحد ، فأعضاء يبست عن الطاعة لا تصلح إلا للقطع ، فإن الشجرة إذا يبست لا تصلح إلا للنار .
من أحب الدينا بقلبه كان كمن بنى حسنا فوقه مرحاض فرشح عليه ، فلا يزال كذلك حتى يُرى ظاهره كباطنه ، ومنهم من يُنقيه فلا يزال قلبه أبيض ، وتنقيه بالتوبة والأذكار ،والندم والإستغفار . كذلك أنت في حضرة الله مُلوث بمعصيتك ، تأكل المحرم وتنظر إلى المحرم ، فمن يفعل المخالفات والشهوات يُظلم قلبه ، فغن لم تتب في حال الصحة ربما ابتلاك بالأمراض والمحن ، حتى تخرج نقيا من الذنوب كالثوب إذا غُسل فاصقل مرآة قلبك بالخلوة والذكر حتى تلقى الله تعالى ، وليكن ذكرا واحدا فتنبع لك الأنوار ، ولا تكن كمن يريد أن يحفر بئرا فيحفر ذراعا هنا وذراعا هنا فلا ينبع له ماءٌ أبدا ، بل احفر في مكان واحد فينبع لك الماء .
يا عبدالله دينك هو رأس مالك ، فإن ضيعته ضيعت رأس مالك ، فاشغل لسانك بذكره ، وقلبك بمحبته ، وجوارحك بخدمته ، واحرث وجدودك بالمحارث حتى يجيء البذر فينبت ، ومن فعل بقلبه كما يفعل الفلاح بأرضه أنار قلبه .
فمثالك مثال رجلين اشتريا أرضا قياسا واحدا ، فأخذها الواحد فنقاها من الشوك والحشيش وأجرى بها الماء ، وبذرها فنبتت وجنى منها وانتفع بها ، فهذا كمن نشأ في الطاعة قد أشرقت أنوار قلبه .
وأما الآخر فإنه أهملها حتى نبت فيها الشوك والحشيش ،وبقيت مأوى للأفاعي والحيات ، فهذا قد أظلم قلبه بالمعاصي .
إذا حضرت المجلس وخرجت إلى المخالفات والغفلات فإياك أن تقول : ما يُفيد حضوري ؟ بل احضر يكون بك مرض أربعين سنة ، أفتريد أن يذهب عنك في ساعة واحدة ، أو في يوم واحد ؟ فمثالة كرمل رمي في موضع أربعين عاما ، أفتريد أن يزول في ساعة واحدة أو في يوم واحد ؟ فمن فعل المعاصي وتقلب في الحرام لو انغمس في سبعة أبحر لم يطهر حتى يعقد مع الله عقد التوبة .
للظاهر جنابة تمنعك من دخول بيته ، وتلاوة كتابه ، وللباطن جنابة تمنعك من دخول حضرته ، وفهم كلامه ، وهي الغفلة .
فإذا طلبت النفس الشهوات فالجمها بلجام الشرع ، فمثالها مالدابة إذا مالت لزرع غيرك ، فغض الأبصار عن ميلها إلى المستحسنات ، والقلوب عن ميلها إلى الشهوات ، وليكن قلبك معمورا على الدوام ، والحق سبحانه وتعالى اختار لحضرته من يصلح لها ، ومن لا يصلح رماه للكائنات ، فمثالهم كالعبيد يُعرضون على الملك ، فمن أخذه الملك عز ومن لا يصلح بقى للرعية .
ما أتيت لمواطن حكمة أو معصية إلا وفي عُنقك سلسلة نورانية أو ظلمانية ، فإن كنت لا تشهدها أنت فغيرك يشهدها ، ألا ترى أن الشمس يشهدها الناس أجمعون إلا من كان أعمى ؟؟!
ما فائدة العلم إلا بالعمل به ، مثاله كملك كتب كتب إلى نائبه بثغر كتابا فما فائدة الكتاب ؟ أن تقرأه فقط؟ إنما فائدته العمل به .
مثال من يشتغل بالعلم وليس له بصيرة كمثل مئة ألف أعمى سلكوا طريقا متحيرين فيها ، فلو كان فيهم واحد بعين واحدة لتبعه الناس أجمعون وتركوا مئة ألف أعمى .
ومثال العالم مع ترك العمل كالشمعة تُضيء للناس بإحراق نفسها .
علمٌ فيه غفلة عن الله : الجهل خير منه فمن أثمرت جوارحه فقد أمطر قلبه لسانه بالذكر ، وعينه بالغمض ، وأذنيه بالإستماع إلى العلم ، ويديه ورجليه بالسعي إلى الخيرات .
__________________
من أكثر من مجالسة أهل هذا الزمان فقد تعرض لمعصية الله تعالى ، مثاله كمن جعل الحطب اليابس في النار ، ويريد ألا تتقد ، فقد أراد مُحالا ، لأنه قد ورد .
خُص بالبلاء من عرفته الناس ، وعاش فيهم من لم يعرفهم ، فربما جالست غير مُتق وكنت متقيا فجرك إلى الغيبة وقهرك في نفسك .
ما خرب القلوب إلا قلة الخوف .
القلب الحسن هو الذي لا يشغله عن الله تعالى حسنٌ . إن أردت شفاء قلبك فاخرج إلى صحراء التوبة ، وحول حالك من الغيبة إلى الحضور ، وألبس ثياب الذلة والمسكنة ، فإن القلب يشفى ، ولكنك تحشو بطنك وتتفاخر بالسمن ، فمثالك كالخروف الذي يُسمن للذبح ، ألا فقد ذبحت نفسك وأنت لا تشعر !!.
لا يفتك مجلس الحكمة ولو كنت على معصية ، فلا تقل : ما الفائدة في السماع المجلس ، ولا أقدر على ترك المعصية ؟ بل على الرامي أن يرمي فإن لم يأخذ اليوم يأخذ غدا ، ولو كنت كيسا فطنا لكانت حقوق الله عندك أحظى من حظوظ نفسك .
ما يطلع على الأسرار إلا أمين ، وأنت تُعطي نفسك حظها من المآكل والمشارب حتى تملأ بيت الخلاء ، أو يكفيك حبُ الدنيا ؟ ومن احب الدنيا فقد خان ، ومن خان فهل يُطلعك الملكُ على أسراره ! فأستعمل الأذكار وعليه إنزال الأنوار .
ما نفع القلب شيء مثل خلوة يدخل بها ميدان فكرة . كيف يُشرق قلب صُورُ الأكوان منطبعة في مرآته ، أم كيف يرحل إلى الله وهو منكب على شهواته ، أم كيف يطمع أن يدخل حضرة الله وهو لم يطهر من جنابة غفلاته ، أم كيف يرجو أن يفهم دقائق الأسرار وهو لم يتب من هفواته ؟.
أصل كل معصية وغفلة وسهو : الرضى عن النفس ، وأصل كل طاعة ويقظة وعفة : عدم الرضى عنها .
لا ترحل من كون إلى كون فتكون كالحمار في الرحى ، يسير ، والذي ارتحل إليه هو الذي ارتحل منه ، ولكن ارحل من الأموان إلى المُكون .
إنما الأنوار مطايا القلوب والأسرار . والنور جند القلب كما أن الظلمة جند النفس ، فإذا أراد الله أن ينصر عبده أمده بجنود الأنوار ،وقطع عنه مدد الظلم والأغيار .
النور له الكشف ، والبصيرة لها الحُكم ، والقلب له الإقبال والإدبار .
الأكوان ظاهرها غرة - أي يغتر بها الإنسان - وباطنها عبرة ، فالنفس تنظر إلى ظاهر غرتها ، والقلب ينظر إلى باطن عبرتها .
متى اوحشك الله من خلقه فأعلم أنه يريد أن يفتح لك باب الأنس به .
الصلاة محل المناجاة ، ومعدن المصافاة ، تتسع فيها ميادين الأسرار وتُشرق فيها شوارق الأنوار ، علم وجود الضعف منك فقلل أعدادها وعلم احتياجك إلى فضله فكثر أمدادها .
الناس يمدحونك بما يظنون فيك ، فكن أنت ذاما لنفسك لما تعلم منها ، فإن أجهل الناس من ترك يقين ما عنده لظن ما عند الناس . غيب نظر الخلق إليك ، وغب عن إقبالهم عليك بشهود إقباله عليك.
علم أن العباد يتشوفون إلى ظهور سر العناية ، فقال تعالى " يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم " . وعلم أنه لو خلاهم وذلك لتركوا العمل اعتمادا على الأزل فقال تعالى " إن رحمت الله قريب من المحسنين " . إن أردت ورود المواهب عليك فصحح الفقر والفاقة لديك .
أنوار أُذن لها بالدخول ، وأنوار أُذن لها بالوصول . ربما وردت عليك الأنوار فوجدت القلب محشوا بصور الآثار ، فارتحلت من حيث نزلت .
فرغ قلبك من الأغيار يملأه بالمعارف والأسرار . المؤمن يشغله الثناء على الله عن أن يكون لنفسه شاكرا ، وتشغله حقوق الله عن أن يكون لحظوظه ذاكرا .
جعلك الله في العالم الأوسط بين مُلكه وملكوته ، ليُعلمك جلالة قدرك بين مخلوقاته ، وأنك جوهرة انطوت عليها أصداف مُكوناته .
أنت مع الأكوان مالم تشهد المكون ، فإذا شهدته كانت الأموان معك .
العاقل بما هو أبقى أفرح منه بما هو يفنى ، قد أشرق نوره زظهرت تباشيره ، فصد عن هذه الدار موليا ، وأعرض عنها مُغضيا ، فلم يتخذها موطنا ، ولا جعلها سكنا ، بل أنهض الهمة فيها إلى الله تعالى ، وسار إليه مستعينا به في القدوم عليه ، فما زالت مطية عزمه لا يقر قرارها ، دائما تسايرها إلى أن أناخت بحضرة القدس وبساط الأنس ،محل المفاتحة والمواجهة والمجالسة ، والمحادثة والمشاهدة والملاطفة ، وصارت الحضرة مُعشش قلوبهم ، إليها يأوون وفيها يستوطنون ، فإن نزلوا إلى سماء الحقوق ، وأرض الحظوظ فبالإذن والتمكين ، والرسوخ في اليقين ، فلم ينزلوا إلى الحقوق بسوء الأدب والغفلة ، ولا إلى الحظوظ بالشهوة والمتعة ، بل دخلوا في ذلك كله بالله ولله ومن الله وإلى الله ، فإياك يا أخي أن تُصغي إلى الواقعين في هذه الطائفة ، لئلا تسقط من عين الله ، وتستوجب المقت من الله ، فإن هؤلاء القوم جلسوا مع الله على حقيقة الصدق وإخلاص الوفاء ومراقبة الأنفاس مع الله ، قد سلموا قيادهم إليه ، وألقوا أنفسهم سلما بين يديه وتركوا الإنتصار لأنفسهم حياء من ربهم ، فكان هو المحارب عنهم لمن حاربهم ، والغالب لمن غالبهم . ولقد ابتلى الله هذه الطائفة بالخلق خصوصا ، ولا سيما أهل العلم ، فقل أن تجد منهم من شرح الله صدره للتصديق بولي مُعين بل يقول لك : نعم إن الأولياء موجودون ولكن أين هم ؟ فلا يُذكر له أحد إلا وأخذ يدفع خصوصية الله فيه ، طلق اللسان بالإحتجاج ، عاريا من التصديق ، فاحذر من هذا وصفه ،وفر منه فرارك من الأسد .
قال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه : ليس الفقيه من فقأ الحجاب عيني قلبه ، وإنما الفقيه من فهم سر الإيجاد ، وأنه ما أوجده إلا لطاعته ولا خلقه إلا لخدمته ، فإذا فهم هذا كان الفقه منه سببا لزهده في الدنيا وإقباله على الآخرة ، وإهماله لحظوظ نفسه واشتغاله بحقوق سيده ، مفكرا في المعاد ، قائما بالإستعداد .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " المؤمن القوي خير عند الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير ". والمؤمن القوي هو الذي أشرق في قلبه نور اليقين .
قال الله تعالى : " والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم " ، سبقوا إلى الله فخلصوا قلوبهم مما سواه ، فلم تُعقهم العوائق ، ولم تشغلهم عن الله العلائق ، فسبقوا إلى الله إذ لا مانع لهم ، وإنما منع العباد من السبق جواذب التعلق بغير الله ، فكلما همت قلوبهم أن ترحل إلى الله سبحانه وتعالى جذبها ذلك التعلق الذي به تعلقت ، فكرت راجعة إليه ومقبلة عليه ، فالحضرة مُحرمة على من هذا وصفه ، وممنوعة على من هذا نعته ، وافهم ها هنا قوله تعالى : " يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم " والقلب السليم هو الذي لا تعلق له بشيء غير الله تعالى ، وقوله تعالى : " ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولانكم وراء ظهوركم " يُفهم منه أنه لا يصلح مجيئك إلى الله ولا الوصول إليه إلا إذا كنت فردا مما سواه ، وقوله تعالى : " ألم يجدك يتيما فأواى " يفهم منه أنه لا يأويك الله إلا إذا صح يُتمك مما سواه ، وقوله صلى الله عليه وسلم : إن الله وتر يحب الوتر . أي يحب القلب الذي لا يُشفع بمثنيات الآثار ، فكانت هذه القلوب لله وبالله ، فهم أهل الحضرة المخاطبون بعين المنة ، فكيف يُمكنهم أن لسواه مستندين ، وهم لوجود الأحدية مشاهدون ؟
قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رحمه الله : قوي علي الشهود فسألته أن يستر علي ذلك ، فقيل لي : لو سألته بما سأله موسى كليمه وعيسى روحه ومحمد حبيبه صلى الله عليه وسلم وصفيه ، لم يفعل ذلك ولكن سله أن يُقويك ، فسألته فقواني .
فأهل الفهم أخذوا عن الله وتوكلوا عليه فكانوا بمعونته لهم ، فكفاهم ما أهمهم وصرف عنهم ما أغمهم ، واشتغلوا بما أمرهم عما ضمن لهم ، علما منهم بأنه لا يكلهم إلى غيره ، ولا يمنعهم من فضله ، فدخلوا في الراحة ، ووقفوا في جنة التسليم ، ولذاذة التفويض ، فرفع الله بذلك مقدراهم وكمل أنوارهم .
وأعلم رحمك الله تعالى أن العلم حيثما تكرر في الكتاب العزيز ، أو في السنة المطهرة إنما المراد به العلم النافع الذي تُقارنه الخشية ، وتكتنفه المخافة ، قال الله تعالى : " إنما يخشى الله من عباده العلماء " ، فبين أن العلم تُلازمه الخشية ، فالعلماء هم أهل الخشية ، وكذلك قوله تعالى : " إن الذين أوتوا العلم من قبله " وقوله تعالى : " الراسخون في العلم " وقوله تعالى : " وقل رب زدني علما " ، وقوله صلى الله عليه وسلم : العلماء ورثة الأنبياء . إنما المراد بالعلم في هذه المواطن كلها ، العلم النافع القاهر للهوى ، القامع للنفس ، وذلك متعين بالضرورة ، لأن كلام الله تعالى وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أجل من أن يُحمل على غير هذا ، والعلم النافع هو الذي يُستعان به على الطاعة ، ويُلزم الخشية من الله تعالى ، والوقوف على حدود الله تعالى ، وهو علم المعرفة بالله تعالى ، ولكن من استرسل بإطلاق التوحيد ولم يتقيد بظواهر الشريعة فقد قذف به في بحر الزندقة ، ولكن الشأن أن يكون بالحقيقة مؤيدا ، وبالشريعة مقيدا ، وكذلك المحقق فلا يكون منطلقا مع الحقيقة ولا واقفا مع ظاهر إسناد الشريعة ، وكان بين ذلك قواما ، فالوقوف مع ظاهر الإسناد شرك ، والإنطلاق مع الحقيقة من غير تقييد بالشريعة تعطيل ، ومقام الهداية قيما بين ذلك .
كل علم تسبق إليك فيه الخواطر وتتبعها الصور ، وتميل إليه النفس ، وتتلذ به الطبيعة ، فارم به وإن كان حقا ، وخذ بعلم الله الذي أنزله على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واقتد به وبالخلفاء من بعده ، وبالصحابة والتابعين من بعدهم ، وبالهداة إلى الله تعالى ، الأئمة المبرئين من الهوى ، ومتابعتهم تسلم من الشكوك والظنون والأوهام والوساوس والدعاوي الكاذبة المضلة عن الهدى وحقائقه . وحسبك من العلم النافع : العلم بالوحدانية . ومن العلم : محبة الله ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ومحبة الصحابة وإعتقاد الحق للجماعة ، وإذا أردت أن يكون لك نصيب مما لأولياء الله تعالى ، إما بإشارة صادقة أو بأعمال ثابتة لا ينقضها كتاب ولا سنة ، فارفع همتك إلى مولاك واشتغل به دون غيره .
سمعت الشيخ أبا العباس المرسي يقول : والله ما رأيت العز إلا في رفع الهمة عن الخلق .
واذكر رحمك الله ها هنا قوله تعالى : " ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين " فمن العز الذي أعز الله به المؤمن : رفع همته إلى مولاه وثقته به دون ما سواه .
واستح من الله بعد أن يكون كساك حُلة الإيمان ، حتى تميل إلى الأكوان ، أو تطلب من غيره وجود الإحسان .
وقبيح بالمؤمن أن يُنزل حاجته بغير مولاه ، مع علمه بوحدانيته وانفراده بربوبيته ، وهو يسمع قول الله تعالى " أليس الله بكاف عبده " وليذكر قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود " ومن العقود التي عاقدته عليها ألا ترفع حوائجك إلا إليه ، ولا تتوكل إلا عليه ، ورفع الهمة عن الخلق هو ميزان الفقر . " وأقيموا الوزن بالقسط " . فيظهر الصادق بصدقه والمدعي بكذبه ، وقد ابتلى الله تعالى بحكمته ووجود منته الفقراء الذين ليسوا بصادقين بإظهار كا كمنوه من الرغبة ، وأسروه من الشهوة فابتذلوا أنفسهم لأبناء الدنيا ، مُباسطين لهم ، موافقين لهم على مآربهم ، مدفوعين عن أبوابهم ، فترى الواحد منهم يتزين كما تتزين العروس .
معتنون بإصلاح ظواهرهم ، غافلون عن إصلاح سرائرهم ، ولقد وسمهم الحق وسمة كشف بها عُوارهم ، وأظهر أخبارهم ، فبعد أن كانت نسبتهم مع الله ، أن لو صدق مع الله أن يقال له : عبد كبير ، فأخرج عن هذه النسبة فصار يقال له : شيخ الأمير . أولئك الكاذبون على الله تعالى ، الصادون العباد عن صحبة أولياء الله ، لأن ما يشهده العوام منهم يحملونه على كل منتسب لله ، صادق وغير صادق ، فهم حُجُبُ أهل التحقيق ، وسُحُبُ شمس أهل التوفيق ، ضربوا طبولهم ، ونشروا أعلامهم ، ولبسوا دروعهم ، فإذا وقعت الحملة ولوا على أعقابهم ناطصين ، ألسنتهم منطلقة بالدعوى ، وقلوبهم خالية من التقوى ! ألم يسمعوا قوله سبحانه وتعالى " ليسئل الصادقين عن صدقهم " أتُرى : إذا سأل الصادقين عن صدقهم ، أيترك المدعين من غير سؤال ؟ ألم يسمعوا قوله تعالى " وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ، وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون " فهم في إظهار زي الصادقين وعملهم عمل المُعرضين .
قال الله تعالى " وأتوا البيوت من أبوابها " فاعلم أن باب الرزق طاعة الرازق ، فكيف يُطلب منه بمعصيته ، أم كيف يُستمطر فضله بمخالفته ؟ وقد قال عليه أفضل الصلاة والسلام (( لا يُنال ما عند الله بسخطه )) أي : لا يُطلب رزقه إلا برضاه ، وقد قال تعالى مبينا لذلك بقوله " ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب " ولهذا المعنى قال الشيخ أبو العباس رضي الله عنه في حزبه لما قال : وأعطنا كذا وكذا ، قال : والرزق الهني الذي لا حجاب به في الدنيا ،ولا حساب ولا سؤال ولا عقاب عليه في الآخرة ، فأهله على بساط علم التوحيد والشرع سالمين من الهوى والشهوة والطمع .
واحذر من التدبير مع الله تعالى ! فمثال المدبر مع الله كعبد أرسله السيد إلى بلد ليصنع له ثيابا ، فدخل العبد تلك البلدة فقال : أين أسكن ؟ ومن اتزوج؟ فاشتغل وصرف همته لما هنالك وعطل ما أمره السيد به حتى دعاه إليه ، فجزاؤه من السيد أن جازاه القطيعة ووجود الحجبة ، لإشتغاله بإمر نقسه عن حق سيده . كذلك أنت أيها المؤمن أخرجك الحق إلى هذه الدار وأمرك فيها بخدمته وقام ذلك بوجود التدبير منة لك ، فإن أشتغلت فيها بتدبير نفسك عن حق سيدك فقد عدلت عن سبيل الهدى ، وسلكت مسالك الردى . ومثال المدبر مع الله ، والذي لا يدبر مع الله ، كعبدين للملك: أما أحدهما فمشتغل بأوامر سيده ، لا يلتفت إلى ملبس ولا مأكل ، بل إنما هنته خدمة السيد ، فأشغله ذلك عن التعرض لحظوظ نفسه ، وأما العبد الآخر فكيفما طلبه سيده وجده يغسل ثيابه ، وفي سياسة مركوبه ، وتحسين زيه ! فالعبد الأول أولى بإقبال سيده من العبد الثاني ، والعبد إنما اشتُري للسيد لا لنفسه ، كذلك العبد البصير الموفق لا تراه إلا مشغولا بحقوق الله وامتثال اوامره ونواهيه عن محاب نفسه ومهماته ، فلما كان كذلك قام له الحق سبحانه وتعالى بكل أموامره وتوجه له بجزيل عطائه لصدقه في توكله ، لقوله تعالى " ومن يتوكل على الله فهو حسبه ". والغافل ليس كذلك ، لا تجده إلا في تحصيل دنياه وفي الأشياء التي توصله إلى هواه .
ومثال العبد مع الله في هذه الدار كالطفل مع امه ، ولم تكن الأم تدع تدبير ولدها من كفالتها ، ولا أن تُخرجه من رعايتها . كذلك المؤمن مع الله ، قائم له بحسن الكفالة ، فهو سائق إليه المنن ، ودافع عنه المحن .
ومثال العبد في الدنيا كمثل عبد قال له السيد : اذهب إلى أرض كذا وكذا ، وأحكم أمرك لأن تسافر منها في برية كذا وكذا ،وخذ أهبتك وعُدتك ، فإذا أذن له السيد في ذلك ، فمعلوم أنه قد أباح له أن يأكل ما يستعين به على إقامة بُنيته ليسعى في طلب العدة ، وليقوم بوجود الأهبة .
كذلك العبد مع الله : أوجده في هذه الدار وأمره أن يتزود منها لمعاده ، فقال الله تعالى " وتزودوا فإن خير الزاد التقوى " فمعلوم أنه إذا أمره بالزاد إلى الآخرة فقد أباح له أن يأخذ من الدنيا ما يستعين به على تزوده إلى الآخرة ، وإستعداده وتأهبه لمعاده .
ومثال العبد مع الله كمثل أجير أتى به ملك إلى داره ، وأمره أن يعمل له عملا ، فما كان الملك ليأتي بالأجير ويستخدمه في داره ويتركه من غير تغذية ، إذ هو أكرم من ذلك . فكذلك العبد مع الله : فالدنيا دار الله ، والأجير هو أنت . والعمل هو الطاعة والأجرة هي الجنة ، ولم يكن الله ليأمرك بالعمل ، ولا يسوق لك ما به تستعين عليه .
ومثال العبد مع الله تعالى كمثل عبد أمره الملك أن يقيم في أرض كذا ، ويحارب فيها العدو ويجاهده فيها ، فمعلوم أنه إذا أمره بذلك أباح له أن يأكل من مخازن تلك الأرض بالأمانة ، ليستعين به على محاربة العدو . وكذلك العباد : أمرهم الحق سبحانه وتعالى بمحاربة النفس والشيطان ومجاهدتهما ، لقوله تعالى : وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم " وقال تعالى " إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا " فلما أمر العبد بمحاربته ، أذن له أن يتناول من منابت أرضه ما يستعين به على محاربة الشيطان ، إذ لو تركت المأكل والمشرب لم يُمكنك أن تقوم بطاعته ، ولا أن تنهض لخدمته .
ومثال العبد مع الله كمثل ملك له عبيد ، فبنى دارا وبهجها وحسنها ، وتولى غراسها ، وكمل المشتهيات فيها ، في غير الموطن الذي فيه العبيد ، وهو يريد أن ينقلهم إليها ، أترى إذا كانت هذه العناية بهم فيما ادخره لهم عنده وهيأه لهم بعد الرحلة ، أيمنعهم ها هنا أن يتناولوا من مننه ، وفضلات طعامه وهو قد هيأ لهم الأمر العظيم والفضل الجسيم ؟! كذلك العباد مع الله : جعلهم في الدنيا ، وهيأ لهم الجنة ، فلا يريد أ، يمنعهم من الدنيا ولكت ما يُقيم به وجودهم ، فقال تعالى " كلو من الطيبات واعملوا صالحا " وقال تعالى " يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم " . وإذا ادخر لك الباقي ومن عليك به لا يمنعك الفاني ،فإنما يمنعك مالم يقسمه لك ، ومالم يقسمه لك فليس لك .
ومثال المهموم بأمر دنياه ، الغافل عن التزود لأخراه ، كمثل إنسان فاجأه سبع وهو يريد أن يفترسه ، ووقع عليه ذباب ، فاشتغل بذب الذباب ودفعه عن التحرز من السبع .
والحق أن هذا عبد أحمق ، فاقد وجود العقل ، ولو كان متصفا بالعقل لشغله أمر الأسد وصولته وهجومه عليه عن الفكرة في الذباب . كذلك المهتم بأمر ديناه عن التزود للآخرة ، دل ذلك منه على وجود حمقه ، إذ لو كان فهما عاقلا لتأهب للدار الآخرة التي هي مسؤول عنها ، وموقوف فيها ، فلا يشتغل بأمر الرزق ، فإن الإهتمام به بالنسبة للآخرة نسبة الذباب إلى مفاجأة الأسد وهجومه .
ومثال المدخر للأمانة كعبد الملك لا يرى أن له مع سيده شيئا ، ولا يعتمد على ادخار ما في يده ، ولا بدل له ، ولا يختار إلا ما اختاره السيد له ، فإذا فهم هذا العبد أن الإمساك مُراد السيد ، أمسك لسيده لا لنفسه ، حتى يتخير موضع صرفه ، فيكون له صارفا حين يفهم من سيده إرادة صرفه ، فهذا بإمساكه غير ملوم ، لأنه أمسك لسيده لا لنفسه ، كذلك أهل ال
فمن فرح بالدنيا إذا جاءته فلقد ثبت حُمقه ، وأحمق منه من إذا فاتته حزن حزن عليها . فمثالك كمن جاءته حية لتلدغه ، ثم مضت وسلمه الله تعالى منها ، فحزن عليها أن لم تضره .
من علامات الغفلة وصغر العقل : أن تعول هما هل يقع أم لا ، وتترك أن تعول هما لابد من وقوعه ، وتصبح وتقول : كيف يكون السعر غدا ، وكيف يكون الحال في هذه السنة ، وألطاف الله تأتي من حيث لا تعلم والشك في الرزق شك في الرازق ، وما سرق السارق وما غضب الغاضب
إلا رزقه ، فما دمت حيا لا ينقص من رزقك شيء .
كفى بك جهلا أن تعول الهم الصغير ، وتترك الهم الكبير . عُل هم : هل تموت مسلما أو كافرا ؟ عُل هم : هل أنت شقي أم سعيد ؟ عُل هم: النار الموصوفة بالأبدية التي لا إنتهاء لها! عُل هم أخذ الكتاب ياليمين أو بالشمال . هذا هو الهم الذي يُعال ، لا تعل هم اللقمة تأكلها أو شربة
تشربها . أيستخدمك الملك ولا يُطعمك ؟! أتكون في دار الضيافة وتضيع ؟!.
إن أحب ما يُطاع الله به : الثقة به .
لأن تكون خاملا في الدنيا خير لك من أن تكون خاملا يوم القيامة - المجهول من الناس الذي لا يُذكر - .
هذه صفاوة العمر وغربلته ، يا من لا يأكل الحنطة إلا مغربلة لا بد أن يُغربل عملك فلا يبقى لك إلا ما أخلصت فيه وما عدا ذلك يُرمى ، وما أكثر ما يُخشى عليك مخالطة الناس ، ولا يكفيك أن تسمع بأذنيك بل تشاركهم في الغيبة ، وهي تُنقض الوضوء وتفطر الصائم .
كفى بك جهلا أن تغار على زوجتك ولا تغار على إيمانك ! كفى بك خيانة أن تغار عليها لأجل نفسك،
ولا تغار على قلبك لأجل ربك ، إذا كنت تحفظ ما هو لك ألا تحفظ ما هو لربك ؟!
إذا رأيت من يصبح مهموما لأجل الرزق فاعلم أنه بعيد من الله ، فإنه لو قال لك مخلوق: لا تشتغل غدا بسبب ، وأناأعطيك خمسة دراهم ، وثقت به وهو مخلوق فقير ، أفما تكتفي بالغني
الكريم الذي ضمن لك رزقك من أجلك ؟!
قال الشاعر :
إذا العشرون من شعبان ولت فواصل شُرب ليلك بالنهار
ولا تشرب بأقداح صغار فقد ضاق الزمانُ على الصغار
فمعناه عنده: إذا مضت العشرون من شعبان فقد قرب رمضان يقطع علينا الشراب . ومعناه عند أهل الطريق : إذا خلفت أربعين سنة وراء ظهرك
فواصل العمل الصالح بالليل والنهار ، لأن وقت قد قرب إلى لقاء الله عز وجل ، فليس عملك كعمل من كان شابا ولم يضيع شبابه ونشاطه ، وأنت قد ضيعت شبابك ونشاطك .
هب أنك تريد الجد ولكن لا تساعدك القُوى ، فأعمل على قدر حالك ورقع الباقي بالذكر فإنه لا شيء أسهل منه ، يُمكنك في حال القيام والقعود والإضطجاع والمرض ، فهذا أسهل العبادات وهي التي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" وليكن لسانك رطبا بذكر الله ".
وأي دعاء أو ذكر سهل عليك فواظب عليه ، فإن مدده من الله عز وجل ، فما ذكرته إلا ببره ، وما أعرضت عنه إلا بسطوته وقهره ، فاعمل واجتهد فالغفلة في العمل خير من الغفلة عنه .
ترى حالك حال الزاهدين في الفضل ، لأن الطالب لا ينقطع عن الأبواب بل تجده واقفا عليها ، فمثاله كالثكلى التي مات ولدها
أتراها تحضر العرس والأفراح والولائم ؟! بل هي مشغولة بفقد ولدها .
وكم يرسل لك المولى الصنائع وأنت عبدٌ سرود ، فمثالك كالطفل في المهد كلما حُرك نام . ولو أرسل لك الملك خلعة - العطية - ما أصبحت إلا على بابه ، فاغتنم أوقات الطاعات
واصطبر عليها .
إن طلبت أن تعصيه فاطلب مكانا لا يراك أحدٌ ، واطلب قوة من غير أن تعصيه بها ، ولن تستطيع شيئا من ذلك لأن الكل من نعمه ، أتأخذ نعمه وتعصيه بها ؟! بل تفننت في المخالفات ، مرة بالغيبة ومرة بالنميمة
ومرة بالنظر وما بنيته في سبعين سنة تهدمه في نفس واحد .
يا هادم الطاعات ... ما سلط الله عليك الفاقة إلا لترفع حالتك إليه ، ولتجمع عليه ، فيا من يُغرق نفسه بالشهوات والمعاصي ، ليتك أعطيتها ذلك في المباحات ، فمن عاملته بالدنايا وعاملك بالمنن كيف لا تُحبه ؟ من عاملك بالكرم وعاملته باللؤم كيف لا تحبه ؟!.
ما أحد يصحبك فينفعك ، وكل من يصحبك إنما يصحبك لنفسه ، وإنما تحبك الزوجك لتجتني منك مطايب العيش والملابس ، وكذلك الولد يقول: أشدُ بك ظهري فإذا كبرت ولم تبق فيك قوة ولا بقية رفضوك !!.
لو انقطعت عن الخلق لفتح الله لك باب الأنس به تعالى ، لأن أولياء الله قهروا أنفسهم بالخلوة والعُزلة ، فسمعوا من الله وأنسوا به ، فإن أردت أن تستخرج مرآة قلبك من الأكدار فارفض ما رفضوا - وهو الأنسُ بالخلق - وانس ما جرى لفلان واتفق لفلان ؟ ولا تقعد على أبواب الحارات فمن استعد استمد ، فإذا هيأ لك الإستعداد
فتح لك باب الإستمداد ، ومن أحسن قرع الباب فُتح له ، فرب طالب أساء قرع الباب فرُد لسوء أدبه ولم يُفتح له .
أكثر ما أوتي العباد من قلة الصمت . فو تقربت إلى الله لسمعت مخاطبته على الدوام ، في سوقك وفي بيتك،
ولكن من استيقظ شهد ، ومن نام لم تسمع أذنا قلبه ، ولم تشهد بصيرته ، ولكن الحجاب مُرخى ، ولو أن العباد فطنوا لم يُقبلوا إلا على الله ، ولم يجلسوا
إلا بين يديه ، ولم يستفتوا غيره ، لقوله صلى الله عليه وسلم " استفت قلبك وإن أفتوك " لأن الخواطر الإلهامية تأتي من الله تعالى فهي موافقة ، وربما أخطأ
المفتي والقلب لا يقبل الخطا ، وهذا مخصوص بالقلوب الطاهرة ، وإنما يُستفتى عالم ، ولا علم لمن غفل عن الله تعالى .
كانوا رضي الله عنهم لا يدخلون في شيء بنفوسهم ، ولكن من الله وبالله ، وإن المسافة بعجت بين الأولياء والصحابة ، فجعُلت الكرامات جبرا لما فاتهم من قُرب المتابعة التامة ،
فإن من الناس من يقول : إن الأولياء لهم الكرامات ، والصحابة لم يكن لهم ذلك . بل كانت لهم الكرامات العظيمة ، بصحبتهم له صلى الله عليه وسلم ، وأي كرامة أعظم منها ؟!
واعلم أن كل صلاة لا تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر لا تُسمى صلاة لقوله تعالى " إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر " وأنت تخرج من الصلاة ومن مناجاة الحق سبحانه وتعالى في قوله
" إياك نعبد وإياك نستعين " ومناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم بقولك " السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته " وهذا في كل صلاة ثم تخرج إلى الذنوب بعد هذه النعم التي أنعم الله بها عليك؟
عن الشيخ أبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه ، أنه كان يحضره عنده فقهاء الإسكندرية
والقاضي ، فجاؤوا مرة مختبرين للشيخ ، فتفرس فيهم وقال : يا فقهاء يا فقهاء ! هل صليتم قط؟
قالوا: يا شيخ وهل يترك أحدنا الصلاة؟؟! فقال لهم : قال الله تعالى " إن الإنسان خُلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين " فهل أنتم كذلك:إذا مسكم الشر
لا تجزعوا وإذا مسكم الخير لا تمنعوا؟ فسكتوا جميعا ، فقال لهم الشيخ : فما صليتم هذ الصلاة قط .
إن تفضل عليك بالتوبة فتبت إليه فمن تفضله سبحانه وتعالى ، وإنك تُذنبُ سبعين سنة فتتوب إليه في نفس واحد ، فيمحو ما عملته في تلك المدة .
" التائب من الذنب كمن لا ذنب له " فالمؤمن كلما ذكر ذنبه حزن ، وكلما ذكرطاعته فرح .
قال لقمان الحكيم: المؤمن له قلبان ، يرجو بأحدهما ويخاف بالآخر: يرجو قبول عمله ويخاف ألا يُقبل منه ، ولو وُزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا .
من أراد رؤية الله فعليه بقيام أوامر الله .
إذا اطلعت على زوجتك بخيانة فإنك تغضب عليها ، فكذلك نفسك قد خانتك في عمرك ، وأجمع العقلاء على أن الزوجة إذا خانت لا يلأويها زوجها بل يُطلقها ، فطلق نفسك .
سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أكثر ما يُدخل الجنة ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : تقوى الله وحُسن الخُلُق . فقيل له فما أكثر ما يُخل الناس النار ؟ فقال : الأجوفان : الفم والفرج . فاغسل قلبك بالندم على ما فاتك من الله عز وجل .
غلطوا - والله - في النواح على زوجة أو زوج ، أو والد أو ولد ، بل كان من حقهم أن يُقيموا النواح على فقدانهم تقوى الله من قلوبهم .
تُقهقه بالضحك كأنك قد جاوزت الصراط المستقيم وعبرت النيران؟
إذا لم يكن بينك وبين الله ورعٌ يحتجزك عن معاصي الله إذا خلوت وإلا فضع التراب على رأسك
لقوله : من لم يكن له ورع يحتجزه عن معاصي الله إذا خلا ، لم يعبأ الله
بشيء من عمله .
لا شيء يُخجلك يوم القيامو مثل درهم أنفقته في حرام .
ليس الشأن في من يرفق بك إذا وافقته ، بل الشأن في من يرفق بك إذا خالفته ، ومما يُخاف عليك موالات الذنوب ليستدرجك فيها ،
ويُمكنك منها . قال الله تعالى " سنستدرجهم من حيثُ لا يعلمون ".
إن كانت معك عنايته ينفعك القليل ، وإن لم تكن لك عناية منه لم ينفعك الكثير . لو كشف عنك الحجاب لرأيت كل شيء ناطقا مسبحا لله تعالى، ولكن النقص فيك والحجاب منك .
ما أكثر احتراسك على بدنك ، وما أرخض دينك عليك ! لو قيل لك : إن هذا الطعام مسموم لأمتنعت منه ، ثم لو حُلف لك بالطلاق أنه ليس بمسموم لتوقفت عنه ، بل لو غسلت الوعاء الذي هو فيه مرارا لنفرت منه نفسُك ، فلم تكن كذلك في دينك ؟!.
وكم لله عليك من أيادي أكثر من أمك ! إنها إذا أخذتك وأنت صغير تُلبسُك أحسن الملابس ، فإن وسختها تخلع عليك ثيابا تخلع عليك ثيابا أُخر في الوقت ، وأنت تأتي إلى مملكة مزينة ، ليس فيها موضع شبر إلا ويصلح للسجود عليه ، تُتلف ثوبك وتوسخه بالمعصية ، هكذا فعلك ، تجلى
عليك المحاسن فتجعل فيها ما يُكدرها من المعصية !.
ليس كل من صحب الأكابر اهتدى بصحبتهم ، فلا تجعل صحبة المشايخ علة في أمنك ، فمن اغتر بالله فقد عصاه ،
لأنك أمنت عقوبته . كما يقول الجاهل : صحبت سيدي فلانا ورأيت سيدي فلانا ، ويدعون بدعاوي كلها كاذبة باطلة ، بل كان يبنغي لهم أن تزيدهم صحبة المشايخ خوفا ووجلا ، فقد صحب الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانوا أكثر وجلا وخوفا .
رد: تاج العروس الحاوي لتهذيب النُفوس
وربما كان الغنى دفعا والفقر جمعا ، لأن الفاقة تُحوجك أن تتضرع إلى الله ، ولفاقة تجمعك على الله خير من غنى يقطعك عنه .
كما أُمرت أن تُعرض عمن عصى وتدعو له في الغيبة . والناس اليوم على العكس ، وما عسى أن ينفعك صومك وصلاتك وأنت تقع في عرض أخيك المسلم ؟! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" جددوا إيمانكم بقول : لا إله إلا الله ."
فدل ذلك على أنه يُحصل له غبار المعصية ودنس المخالفة ، وما كل المخالفة ، وما كل غش يُطهره الماء ، بل رُب غش لا يُطهره إلا النار ، كالذهب إذا كان فيه الغش ، فكذلك العصاة من هذه الأمة لا يصلحون لدخول الجنة حتى تُطهرهم النار .
لا يُحسد إلا عبدٌ قد لُف في ملابس التقوى ، هذا هو العيش وما أطيب عيش المحب مع الحبيب إذا لم يطلع عليه رقيب ! فإن أحب أن يطلع عليه رقيب فما صدق في حُبه ، وكل من أراد أن يعلم أحد بحاله فقد خُدع .
ولا تكن كأرباب الدنيا الذين طلقتهم الدنيا ، بل كن من الذين طلقوها وفارقوها قبل افتراقهم . فمثالك إذا آثرت الدنيا على الآخرة كمن له زوجتان : إحداهما عجوز خائنة ، والأخرى شابة وفية ، فإذا آثرت العجوز الخائنة على الشابة الوفية أفما تكون أحمق ؟!.
ربما قضى عليك بالذنب ليُخرج منك الكبر والعُجب فقد رُوي : رُب ذنب أدخل صاحبه الجنة .
يُصلي الرجل ركعتين فيعتمد عليهما ، ويركن إليهما ويُعجب بهما ، فهذه حسنة أحاطت بها سيئات ، وآخر يفعل المعصية فتكسبه الذلة والإنكسار وتُديم المسكنة والإفتقار ، فهذه سيئة أحاطت بها حسنات .
كفى بك جهلا نظرك إلى إساءة صغيرة من غيرك ، وتعاميك عن كبير إساءتك .
لا تنتقد على الناس بظاهر الشرع ولا تنكر عليهم ، فلو خوطب الناس اليوم بما كانت عليه الصحابة والسلف الصالح لم يستطيعوا لأن أولئك حُجج الله على خلقه .
مثال الدنيا عند أرباب البصائر كجيفة أدخلت الكلاب خراطيمها فيها ، أرأيت إذا غمس رجل فمه في جيفة أفما تعيب عليع ؟ فإذا كان الحق سبحانه وتعالى قد جعل ميزانا للبيع والشراء أفما جعل ميزانا للحقائق ؟!.
المتنجس القدم لا يصلح للمحاضرة ، فكيف بمن تنجس فمه ؟.
من خان هان ، قيمة اليد خمسمئة دينار ، فإذا خانت قُطعت في ربع دينار (( قال أحدهم مشككا : يدٌ بخمس مئين عسجد وُديت ما بالها قُطعت في ربع دينار ... فأجيب : عز الأمانة أغلاها وأرخصا ذل الخيانة فافهم حكمة الباري . وعندما سُئل ابن الجوزي عن هذا قال : لما كانت أمينة كانت ثمينة ، فلما خانت هانت .)) ومن تجرأ على صغيرة وقع في الكبيرة .
اعرف كمائن نفسك ولا تثق بها ، إذا قالت لك : تزور فلانا فربما رُحت إلى نار تتأجج ترمي نفسك فيها عمدا فإنما هذا زمان اجتماع ، قلما تجلس مجلسا إلا وتعصي اللع فيه ، فكثيرٌ من السلف آثروا الجلوس في بيوتهم ، وتركوا صلاة الجماعة ، فإن طالبتك النفس بالخروج فاشغلها بالقعود في الدار بشيء من الطاعة ، فإن الغيبة أشد من ثلاثين زنية في الإسلام ، ولكن الكلاب لا ترقد في دار عالية الحيطان بل على المزابل .
من أراد أن ينظر إلى أمثلة القلوب فلينظر إلى الديار : فدار عامرة مأهولة ودار قد خربت حتى بقيت مبولة للبوالين ، وقلب كالدكان العامرة ، وقلب كالكان الخراب لا تطهر حتى تُعامل الله ، فتصدق كل يوم ولو بربع درهم أو بلقمة ، حتى يكتبك الله في ديوان المتصدقين ، واتل من القرآن كل يوم ول آية ، حتى يكتبك الله في ديوان التالين ، وصل في الليل ولو ركعتين ، حتى يكتبك الله مع القائمين . وإياك تغلظ وتقول : من عنده قوت يوم بيوم كيف يتصدق ؟ قال الله تعالى :" لينفق ذو سعة من سعته ومن قٌدر عليه رزقه فلينفق مما آته الله ". فمثال المسكين إذا تصدق عليه كالمطية تحمل زادك إلى الآخرة .
من أراد النهايات فعليه بتصحيح البدايات .
من صدق مع الله كفاه الله مضرة الأعداء ، وحمل مؤنة الأرداء لأنه قد هان كل الهوان من احتاج إلى الخلق .
أتظن ان الدواء حلوى تأكلها ؟ إن لم تهجم عليه هجما لم يُحصل لك الشفاء ، فاهجم على التوبة ةلا تغلبنك حلاوة المعصية ،وإذا رأيت نفسك متطلعة إلى الشهوة فاهرب إلى الله واستعث به فإنه يُنجيك منها
بدل ما تقول : أين أصحاب الخطوة ؟ أين الأولياء ؟ أين الرجال ؟ قُل أين البصيرة ؟ هل يصلح للمتلطخ بالعذرة أن يرى بنت السلطان ؟!.
عن الشيخ مكين الدين الأسمر رضي الله عنه أنه قال : كنت في الأسكندرية فرأيت شمسا قد طلعت مع الشمس فتعجبت من ذلك ، فدنوت منه فإذا شاب قد خط عذاره - نبت شعر لحيته - قد غلب نوره على نور الشمس فسلمت عليه فرد علي السلام ، فقلت له : من أين أنت ؟ قال : صليت الصبح في المسجد الأفصى ببيت المقدس وأصلي الظهر عندكم والعصر بمكة والمغرب بالمدينة ! فقلت له : تكون ضيفي . قال : لا سبيل إلى ذلك ، ثم ودعني وانصرف .
من أكرم مؤمنا فكأنما أكرم الله ، ومن آذى مؤمنا فقد أذى سيده ومولاه فإياك أن تؤذي مؤمنا فإن نفسك قد امتلأت بمساويها فيكفيها حملك .
وما مثلك إلا كالبصلة إذا قُشرت خرجت كلها قشورا .
إذا أردت تنظيف الماء قطعت عنه أسبابه الخبيثة ، فمثال الجوارح كالسواقي تجري إلى القلب ، فإياك أن تسقي قلبك بالرديء كالغيبة والنميمة والكلام السيء والنظر إلى ما لا يحل ، وغير ذلك ، فإن القلب لا يحجبه ما خرج منه ، وإنما يحجبه ما اقام فيه ، فإستنارة القلب : بأكل الحلال والذكر وتلاوة القرآن وصونه عن النظر إلى الكائنات المباحات والمكروهات والمحرمات . فلا تطلق صائد بصرك إلا لمزيد علم أو حكمة . عوض ما تقول : هذه المرآة صدئت ، قل: عيني بها رمد .
يكون بك حب الرياسة والجاه وغيرهما وتقول : الشيخ ما يجذب قلوبنا . قل : العائق مني.
لو استعددت في أول يوم لما أحتجت إلى حضور مجلس ثان ، وإنما أحتجت إلى التكرار لقوة صدأ قلبك ، حتى تكون لكل جلسة صقلة .
عليك بالحوالة - حول أمورك كلها إلى الله وأطلبها منه وحده - على مولاك واترك من لا يستطيع أن ينفع غيره .
إقطع إياسك من الخلق ، ووجه رجاءك إلى الملك الحق ، وانظر : ماذا عملك ؟ وماذا عمل معك من اول نشأتك ؟ ما صنع معك إلا جوادا وإحسانا ، وانظر مذا صنعت معه فلا ترى إلا جفاء وعصيانا .
ما اكثر موالاتك للمخلوقين وما أقل موالاتك لله !!
جوارحك غنمك وقلبك هو الراعي والله هو المالك فإن رعيتها في المرعى الخصيب حتى أرضيت المالك ، استوجبت الرضى ، وإن رعيتها في المرعى الوخيم حتى أعجف - صار هزيلا ونحيلا - أكثرها ، ثم جاء الذئب فأخذ بعضها استوجبت العقوبة من المالك ، فإن شاء انتقم منك ، وإن شاء عفا عنك . فجوارحك إما أبواب إلى الجنة ، وإما أبواب إلى النار . فإن صرفتها فيما يرضاه كنت ساعيا في طريق الجنة ، وإلا كنت ساعيا في طريق النار . فهذه موازين الحكمة فزن بها عقلك كما تزن بها الأشياء المحسوسات ، فإن أردت أن تعرف كيف تمر على الصراط فأنظر حالك في الإسراع إلى المساجد ، فيكون جزاء الذي يأتي المسجد قبل الأذان أن يمر على الصراط كالبرق الخاطف والذي يأتي في أول الوقت يمر عليه كأجاويد الخيل . وها هنا صراط الإستقامة لا يُشهد بالأبصار ، ولكن تشهده بالقلوب ، قال الله تعالى :" وأن هذا صراطي مُستقيما فاتبعوه " .ولم يُشر إلا إلى موجود ، فمن أضاءت له الطريق يتبعها ، ومن كانت طريقه مظلمة لم يشهدها فيبقى متحيرا ، فإن كنت قد أطلقت سمعك وبصرك ولسانك بُرهة من عمرك فقيد الآن ما أطلقت ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" يدخل فقراء المؤمنين الجنة قبل الأغنياء بخمسمئة عام " . وذلك لأنهم سبقوا في الدنيا بالعبادات ، وأنت تترك الجماعة وتصلي وحدك ، وإذا صليتها نقرتها نقر الديك ، وهل يُهدى للملوك إلا ما حسن وأنتخب ؟ فما سبق الفقراء إلى الجنة إلا لأنهم سبقوا إلى خدمة المولى في الدنيا ، والمراد بالفقراء : الصبر الذين صبروا على مُر الفاقة ، حتى إن أحدهم ليفرح بالشدة كما تفرح أنت بالرخاء ، فدخول الفقراء الجنة قبل الأغنياء يدل على صبرهم على الفاقة .
كفى بك جهلا أن تتردد إلى المخلوق ، وتترك باب الخالق ! فقد ارتكبت المعاصي من كل جانب ، أفلا تكون محزونا على نفسك ؟ والعجب كل العجب من عبد يُقبل على صُحبة نفسه ولا يأتيه الشر إلا منها ، ويترك صحبة الله ولا يأتيه الخير إلا منه .
فإن قيل : كيف الصحبة لله ؟ فاعلم أن صحبة كل شيء على حسبه : فصحبة الله تعالى بإمتثال أوامره واجتناب نواهيه وصحبة الملكين بأن يُمليهما الحسنات وصحبة الكتاب والسنة أن يعمل بهما ، وصُحبتك السماء بالتفكر فيها ، وصُحبتك الأرض بالإعتبار لما فيهما
وليس من لازم الصحبة وجود الرتبة ، فالمعنى في صحبة الله صحبة أياديه - النعم والآلاء - ونعمه : فمن صحب النعم بالشكر وصحب البلايا بالصبر ، وصحب الأوامر بالإمتثال ، والنواهي بالإنزجار ، والطاعة بالإخلاص - فقد صحب الله تعالى ، فإذا تمكنت الصحبة صارت خلة - المودة والصداقة - .
إياك أن تقول : ذهب الخير وانطوى بساطه ، فلسنا نريد من يُقنط الناس من رحمة الله ويُؤيسهم منه تعالى ، ففي زبور داود عليه السلام ، أرحم ما أكون بعبدي إذا أعرض عني . فرُب مطيع هلك بالعُجب ، ورُب مذنب غُفر له بسبب كسر قلبه .
عن الشيخ مكين الدين الأسمر أنه قال : رأيت بالإسكندرية عبدا مع سيده وعليهما لواءٌ قد أطبق ما بين السماء والأرض ، فقلت : يا تُرى هذا اللواء للسيد أم للعبد ، فتبعتهما حتى اشترى له سيده حاجة وفارقه ، فلما ذهب العبد ذهب اللواء معه ، فعلمت أنه وليٌ من أولياء الله تعالى ، فجئت إلى سيده وقلت له : أتبيعني هذا العبد ؟ فقال : لماذا ؟ فما زال بي حتى ذكرت له أمره ، فقال لي : يا سيدي ، الذي تطلبه أنت: أنا أولى به ، وأعتقه وكان وليا كبيرا .
فمنهم من يعرف الأولياء بالشم من غير وجود طيب ، ومنهم من يعرفهم بالذوق ، إذا رأى وليا ذاق طعم الحلاوة في فمه ، وإذا رأى صاحب قطيعة ذاق طعم المرارة المرارة في فمه .
من لم يترك المحرمات لم ينفعه القيام بالواجبات من لم يحتم لم ينفعه الدواء .
ما أقل بركة مال وقعت فيه أيدي الناهبين ! فهذا - والله - عُمُرُ الغافلين منهوب .
مثال الدنيا كعجوز جذماء برصاء ، سُترت بثوب حرير ، فالمؤمن نافرٌ ومُنفر عنها لإنكشافها له ، وما لبس أحدٌ لباسا أنتن من لباس الدعوى بأن يقول في المخاصمة : أنت مثلي ؟وأنت يصلح أن تكلمني ؟ومن أنت حتى أكلمك ! فأول من هلك بذلك أبليس ، فإياك وهذا ولو كان أعرج أجذم أجرب فلا تحقره ، لحرمة لا إله إلا الله في قلبه ، وحسن ظنك بكل أحد تُفلح ، أتحسب أن حُسن الخلق هو أن يكون الإنسان حسن الملتقى ، ومن أكرم الناس وضيع حقوق الله تعالى ؟ ليس هذا بحخُلق حسن ، بل لا يكون العبد ممدوحا بحُسن الخلق حتى يكون قائما بحقوق الله تعالى ، وقائما بأحكامه ، مستسلما لأوامر الله ، مجتنبا لنواهيه ، فمن منع نفسه معاصي الله ، وأدى حقوق الله فقد حسن خُلقه .
ما سلط الله عليك ألسنة العباد إلا لترجع إليه . ألا ترى : لا توال لك قيمة عند الله حتى تعصي ، فإذا عصيت فلا قيمة لك . التقوى هي ترك معصية الله حيث لا يراك أحد .
كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا شرب الماء قال : الحمدلله الذي جعله عذبا فراتا برحمته ولم يجعله أجاجا بذنوبنا . وهو صلى الله عليه وسلم مقدس عن الذنوب ولكن تواضعا منه وتعليما وكان يمكنه أن يقول : بذنوبكم ، وما أكل الرسول ولاشرب إلا ليعلمنا الأدب وإلا فكان عليه الصلاة والسلام يُطعم ويُسقى ، فالعارف يُنكس رأسه إذا شرب وربما تقطر عيناه بالدموع ويقول : هذا تودد من الله تعالى .
كان بعضهم لا يخرج لصلاة الجماعة لما يتعرض له في طريقة ، منهم مالك بن أنس رضي الله عنه ، لأن الجماعة ربح والربح لا يُحسب إلا بعد الإطاحة على رأس المال .
لا تحسب السباع في البرية بل السباع في الأسواق والطرق وهي التي تنهش القلوب نهشا .
مثال من يُكثر الذنوب والإستغفار كمثل من يُكثر شُرب السُم ، ويُكثر استعمال الترياق ، فيقال له : قد لا تصل إلى الترياق مرة ، فيهجم عليك الموت قبل الوصول إليه .
من مرض قلبه مُنع أن يلبس التقوى ، فلو صح قلبك من مرض الهوى والشهوة تحملت أثقال التقوى ، فو صح قلبك من مرض الهوى والشهوة تحملت أثقال التقوى ، فمن لم يجد حلاوة الطاعة دُل على مرض قلبه من الشهوة ، وقد سمى الله تعالى الشهوة مرضا بقوله تعالى : " فيطمع الذي في قلبه مرض ".ولك في علاجه طريقان : استعمال ما هو نافع وهو الطاعة ، واجتناب ما هو لك مُضر وهو المعصية . فإن فعلت ذنبا وأعقبته لالتوبة والندم والإنكسار والإنابة كان ذلك سبب وصلتك به ، وإن فعلت طاعة وأعقبتها بالعجب والكبر كان ذلك سبب القطيعة عنه .
عجبا لك كيف تطلب صلاح قلبك ، وجوارحك تفعل ما شاءت من المحرمات كالنظر والغيبة والنميمة وغير ذلك ؟ فمثالك كمن يتداوى بالسم أو كمن أراد تنظيف ثوبه بالسواد ، فعليك بالخلوة والعزلة ، فمن كانت العزلة دأبه كان العز له ، فمن صدقت عُزلته ظفر بمواهب الحق له بالمنن ، وعلامتها : كشف الغطاء وإحياء القلب وتحقيق المحبة ، فعليك بحسن العمل لا بكثرته : فمثال كثرة العمل مع عدم الحُسن فيه كالثياب الوضيعة الثمن ، ومثال قلة العمل مع حُسنه كالثياب القليلة الرفيعة الثمن ، كالياقوتة : صغيرٌ جرمها مثير ثمنها . فمن أشغل قلبه بالله ، وعالجه مما يطرأ عليه من الهوى كان أفضل ممن يُكثر من الصلاة والصيام .
مثال من صلى الصلاة بغير حضور قلب كمن أهدى للملك مئة صندوق فارغة فيستحق العقوبة من الملك ، ومن صلاها بحضور القلب كان كمن أهدى له ياقوتة تساوي ألف دينار ،فإن الملك يذكره عليها دائما .
إذا دخلت في الصلاة فإنك تناجي الله تعالى وتُكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنك تقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته . ولا يُقال أيها الرجل عند العرب إلا لمن يكون حاضرا.
ركعتان بالليل خير من ألف بالنهار ، وأنت لا تصلي فيه ركعتين إلا لتجد ذلك في كيزانك ، وهل يُشترى العبد إلا للخدمة؟ هل رأيت عبدا يُشترى ليأكل وينام ؟ وما أنت إلا عبد أشتُريت . قال الله تعالى " إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ "
من لم يُلزم نفسه لزمته ، ومن لم يطالبها طالبته ، فلو جعلت عليها الأثقال بالطاعة لما طالبتك بالمعصية ، ولما كانت تتفرغ لها . هل رأيت الصالحين والعُباد يتفرجون في الأعياد ؟ من شغل نفسه بالمباحات والفرح شُغل عن قيام الليل ، فيقال له : شغلت نفسك عنا فشغلناك عن عبادتنا .
ركعتان في جوف الليل أثقل عليك من جبل أحد ، فأعضاء يبست عن الطاعة لا تصلح إلا للقطع ، فإن الشجرة إذا يبست لا تصلح إلا للنار .
من أحب الدينا بقلبه كان كمن بنى حسنا فوقه مرحاض فرشح عليه ، فلا يزال كذلك حتى يُرى ظاهره كباطنه ، ومنهم من يُنقيه فلا يزال قلبه أبيض ، وتنقيه بالتوبة والأذكار ،والندم والإستغفار . كذلك أنت في حضرة الله مُلوث بمعصيتك ، تأكل المحرم وتنظر إلى المحرم ، فمن يفعل المخالفات والشهوات يُظلم قلبه ، فغن لم تتب في حال الصحة ربما ابتلاك بالأمراض والمحن ، حتى تخرج نقيا من الذنوب كالثوب إذا غُسل فاصقل مرآة قلبك بالخلوة والذكر حتى تلقى الله تعالى ، وليكن ذكرا واحدا فتنبع لك الأنوار ، ولا تكن كمن يريد أن يحفر بئرا فيحفر ذراعا هنا وذراعا هنا فلا ينبع له ماءٌ أبدا ، بل احفر في مكان واحد فينبع لك الماء .
يا عبدالله دينك هو رأس مالك ، فإن ضيعته ضيعت رأس مالك ، فاشغل لسانك بذكره ، وقلبك بمحبته ، وجوارحك بخدمته ، واحرث وجدودك بالمحارث حتى يجيء البذر فينبت ، ومن فعل بقلبه كما يفعل الفلاح بأرضه أنار قلبه .
فمثالك مثال رجلين اشتريا أرضا قياسا واحدا ، فأخذها الواحد فنقاها من الشوك والحشيش وأجرى بها الماء ، وبذرها فنبتت وجنى منها وانتفع بها ، فهذا كمن نشأ في الطاعة قد أشرقت أنوار قلبه .
وأما الآخر فإنه أهملها حتى نبت فيها الشوك والحشيش ،وبقيت مأوى للأفاعي والحيات ، فهذا قد أظلم قلبه بالمعاصي .
إذا حضرت المجلس وخرجت إلى المخالفات والغفلات فإياك أن تقول : ما يُفيد حضوري ؟ بل احضر يكون بك مرض أربعين سنة ، أفتريد أن يذهب عنك في ساعة واحدة ، أو في يوم واحد ؟ فمثالة كرمل رمي في موضع أربعين عاما ، أفتريد أن يزول في ساعة واحدة أو في يوم واحد ؟ فمن فعل المعاصي وتقلب في الحرام لو انغمس في سبعة أبحر لم يطهر حتى يعقد مع الله عقد التوبة .
للظاهر جنابة تمنعك من دخول بيته ، وتلاوة كتابه ، وللباطن جنابة تمنعك من دخول حضرته ، وفهم كلامه ، وهي الغفلة .
فإذا طلبت النفس الشهوات فالجمها بلجام الشرع ، فمثالها مالدابة إذا مالت لزرع غيرك ، فغض الأبصار عن ميلها إلى المستحسنات ، والقلوب عن ميلها إلى الشهوات ، وليكن قلبك معمورا على الدوام ، والحق سبحانه وتعالى اختار لحضرته من يصلح لها ، ومن لا يصلح رماه للكائنات ، فمثالهم كالعبيد يُعرضون على الملك ، فمن أخذه الملك عز ومن لا يصلح بقى للرعية .
ما أتيت لمواطن حكمة أو معصية إلا وفي عُنقك سلسلة نورانية أو ظلمانية ، فإن كنت لا تشهدها أنت فغيرك يشهدها ، ألا ترى أن الشمس يشهدها الناس أجمعون إلا من كان أعمى ؟؟!
ما فائدة العلم إلا بالعمل به ، مثاله كملك كتب كتب إلى نائبه بثغر كتابا فما فائدة الكتاب ؟ أن تقرأه فقط؟ إنما فائدته العمل به .
مثال من يشتغل بالعلم وليس له بصيرة كمثل مئة ألف أعمى سلكوا طريقا متحيرين فيها ، فلو كان فيهم واحد بعين واحدة لتبعه الناس أجمعون وتركوا مئة ألف أعمى .
ومثال العالم مع ترك العمل كالشمعة تُضيء للناس بإحراق نفسها .
علمٌ فيه غفلة عن الله : الجهل خير منه فمن أثمرت جوارحه فقد أمطر قلبه لسانه بالذكر ، وعينه بالغمض ، وأذنيه بالإستماع إلى العلم ، ويديه ورجليه بالسعي إلى الخيرات .
__________________
من أكثر من مجالسة أهل هذا الزمان فقد تعرض لمعصية الله تعالى ، مثاله كمن جعل الحطب اليابس في النار ، ويريد ألا تتقد ، فقد أراد مُحالا ، لأنه قد ورد .
خُص بالبلاء من عرفته الناس ، وعاش فيهم من لم يعرفهم ، فربما جالست غير مُتق وكنت متقيا فجرك إلى الغيبة وقهرك في نفسك .
ما خرب القلوب إلا قلة الخوف .
القلب الحسن هو الذي لا يشغله عن الله تعالى حسنٌ . إن أردت شفاء قلبك فاخرج إلى صحراء التوبة ، وحول حالك من الغيبة إلى الحضور ، وألبس ثياب الذلة والمسكنة ، فإن القلب يشفى ، ولكنك تحشو بطنك وتتفاخر بالسمن ، فمثالك كالخروف الذي يُسمن للذبح ، ألا فقد ذبحت نفسك وأنت لا تشعر !!.
لا يفتك مجلس الحكمة ولو كنت على معصية ، فلا تقل : ما الفائدة في السماع المجلس ، ولا أقدر على ترك المعصية ؟ بل على الرامي أن يرمي فإن لم يأخذ اليوم يأخذ غدا ، ولو كنت كيسا فطنا لكانت حقوق الله عندك أحظى من حظوظ نفسك .
ما يطلع على الأسرار إلا أمين ، وأنت تُعطي نفسك حظها من المآكل والمشارب حتى تملأ بيت الخلاء ، أو يكفيك حبُ الدنيا ؟ ومن احب الدنيا فقد خان ، ومن خان فهل يُطلعك الملكُ على أسراره ! فأستعمل الأذكار وعليه إنزال الأنوار .
ما نفع القلب شيء مثل خلوة يدخل بها ميدان فكرة . كيف يُشرق قلب صُورُ الأكوان منطبعة في مرآته ، أم كيف يرحل إلى الله وهو منكب على شهواته ، أم كيف يطمع أن يدخل حضرة الله وهو لم يطهر من جنابة غفلاته ، أم كيف يرجو أن يفهم دقائق الأسرار وهو لم يتب من هفواته ؟.
أصل كل معصية وغفلة وسهو : الرضى عن النفس ، وأصل كل طاعة ويقظة وعفة : عدم الرضى عنها .
لا ترحل من كون إلى كون فتكون كالحمار في الرحى ، يسير ، والذي ارتحل إليه هو الذي ارتحل منه ، ولكن ارحل من الأموان إلى المُكون .
إنما الأنوار مطايا القلوب والأسرار . والنور جند القلب كما أن الظلمة جند النفس ، فإذا أراد الله أن ينصر عبده أمده بجنود الأنوار ،وقطع عنه مدد الظلم والأغيار .
النور له الكشف ، والبصيرة لها الحُكم ، والقلب له الإقبال والإدبار .
الأكوان ظاهرها غرة - أي يغتر بها الإنسان - وباطنها عبرة ، فالنفس تنظر إلى ظاهر غرتها ، والقلب ينظر إلى باطن عبرتها .
متى اوحشك الله من خلقه فأعلم أنه يريد أن يفتح لك باب الأنس به .
الصلاة محل المناجاة ، ومعدن المصافاة ، تتسع فيها ميادين الأسرار وتُشرق فيها شوارق الأنوار ، علم وجود الضعف منك فقلل أعدادها وعلم احتياجك إلى فضله فكثر أمدادها .
الناس يمدحونك بما يظنون فيك ، فكن أنت ذاما لنفسك لما تعلم منها ، فإن أجهل الناس من ترك يقين ما عنده لظن ما عند الناس . غيب نظر الخلق إليك ، وغب عن إقبالهم عليك بشهود إقباله عليك.
علم أن العباد يتشوفون إلى ظهور سر العناية ، فقال تعالى " يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم " . وعلم أنه لو خلاهم وذلك لتركوا العمل اعتمادا على الأزل فقال تعالى " إن رحمت الله قريب من المحسنين " . إن أردت ورود المواهب عليك فصحح الفقر والفاقة لديك .
أنوار أُذن لها بالدخول ، وأنوار أُذن لها بالوصول . ربما وردت عليك الأنوار فوجدت القلب محشوا بصور الآثار ، فارتحلت من حيث نزلت .
فرغ قلبك من الأغيار يملأه بالمعارف والأسرار . المؤمن يشغله الثناء على الله عن أن يكون لنفسه شاكرا ، وتشغله حقوق الله عن أن يكون لحظوظه ذاكرا .
جعلك الله في العالم الأوسط بين مُلكه وملكوته ، ليُعلمك جلالة قدرك بين مخلوقاته ، وأنك جوهرة انطوت عليها أصداف مُكوناته .
أنت مع الأكوان مالم تشهد المكون ، فإذا شهدته كانت الأموان معك .
العاقل بما هو أبقى أفرح منه بما هو يفنى ، قد أشرق نوره زظهرت تباشيره ، فصد عن هذه الدار موليا ، وأعرض عنها مُغضيا ، فلم يتخذها موطنا ، ولا جعلها سكنا ، بل أنهض الهمة فيها إلى الله تعالى ، وسار إليه مستعينا به في القدوم عليه ، فما زالت مطية عزمه لا يقر قرارها ، دائما تسايرها إلى أن أناخت بحضرة القدس وبساط الأنس ،محل المفاتحة والمواجهة والمجالسة ، والمحادثة والمشاهدة والملاطفة ، وصارت الحضرة مُعشش قلوبهم ، إليها يأوون وفيها يستوطنون ، فإن نزلوا إلى سماء الحقوق ، وأرض الحظوظ فبالإذن والتمكين ، والرسوخ في اليقين ، فلم ينزلوا إلى الحقوق بسوء الأدب والغفلة ، ولا إلى الحظوظ بالشهوة والمتعة ، بل دخلوا في ذلك كله بالله ولله ومن الله وإلى الله ، فإياك يا أخي أن تُصغي إلى الواقعين في هذه الطائفة ، لئلا تسقط من عين الله ، وتستوجب المقت من الله ، فإن هؤلاء القوم جلسوا مع الله على حقيقة الصدق وإخلاص الوفاء ومراقبة الأنفاس مع الله ، قد سلموا قيادهم إليه ، وألقوا أنفسهم سلما بين يديه وتركوا الإنتصار لأنفسهم حياء من ربهم ، فكان هو المحارب عنهم لمن حاربهم ، والغالب لمن غالبهم . ولقد ابتلى الله هذه الطائفة بالخلق خصوصا ، ولا سيما أهل العلم ، فقل أن تجد منهم من شرح الله صدره للتصديق بولي مُعين بل يقول لك : نعم إن الأولياء موجودون ولكن أين هم ؟ فلا يُذكر له أحد إلا وأخذ يدفع خصوصية الله فيه ، طلق اللسان بالإحتجاج ، عاريا من التصديق ، فاحذر من هذا وصفه ،وفر منه فرارك من الأسد .
قال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه : ليس الفقيه من فقأ الحجاب عيني قلبه ، وإنما الفقيه من فهم سر الإيجاد ، وأنه ما أوجده إلا لطاعته ولا خلقه إلا لخدمته ، فإذا فهم هذا كان الفقه منه سببا لزهده في الدنيا وإقباله على الآخرة ، وإهماله لحظوظ نفسه واشتغاله بحقوق سيده ، مفكرا في المعاد ، قائما بالإستعداد .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " المؤمن القوي خير عند الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير ". والمؤمن القوي هو الذي أشرق في قلبه نور اليقين .
قال الله تعالى : " والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم " ، سبقوا إلى الله فخلصوا قلوبهم مما سواه ، فلم تُعقهم العوائق ، ولم تشغلهم عن الله العلائق ، فسبقوا إلى الله إذ لا مانع لهم ، وإنما منع العباد من السبق جواذب التعلق بغير الله ، فكلما همت قلوبهم أن ترحل إلى الله سبحانه وتعالى جذبها ذلك التعلق الذي به تعلقت ، فكرت راجعة إليه ومقبلة عليه ، فالحضرة مُحرمة على من هذا وصفه ، وممنوعة على من هذا نعته ، وافهم ها هنا قوله تعالى : " يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم " والقلب السليم هو الذي لا تعلق له بشيء غير الله تعالى ، وقوله تعالى : " ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولانكم وراء ظهوركم " يُفهم منه أنه لا يصلح مجيئك إلى الله ولا الوصول إليه إلا إذا كنت فردا مما سواه ، وقوله تعالى : " ألم يجدك يتيما فأواى " يفهم منه أنه لا يأويك الله إلا إذا صح يُتمك مما سواه ، وقوله صلى الله عليه وسلم : إن الله وتر يحب الوتر . أي يحب القلب الذي لا يُشفع بمثنيات الآثار ، فكانت هذه القلوب لله وبالله ، فهم أهل الحضرة المخاطبون بعين المنة ، فكيف يُمكنهم أن لسواه مستندين ، وهم لوجود الأحدية مشاهدون ؟
قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رحمه الله : قوي علي الشهود فسألته أن يستر علي ذلك ، فقيل لي : لو سألته بما سأله موسى كليمه وعيسى روحه ومحمد حبيبه صلى الله عليه وسلم وصفيه ، لم يفعل ذلك ولكن سله أن يُقويك ، فسألته فقواني .
فأهل الفهم أخذوا عن الله وتوكلوا عليه فكانوا بمعونته لهم ، فكفاهم ما أهمهم وصرف عنهم ما أغمهم ، واشتغلوا بما أمرهم عما ضمن لهم ، علما منهم بأنه لا يكلهم إلى غيره ، ولا يمنعهم من فضله ، فدخلوا في الراحة ، ووقفوا في جنة التسليم ، ولذاذة التفويض ، فرفع الله بذلك مقدراهم وكمل أنوارهم .
وأعلم رحمك الله تعالى أن العلم حيثما تكرر في الكتاب العزيز ، أو في السنة المطهرة إنما المراد به العلم النافع الذي تُقارنه الخشية ، وتكتنفه المخافة ، قال الله تعالى : " إنما يخشى الله من عباده العلماء " ، فبين أن العلم تُلازمه الخشية ، فالعلماء هم أهل الخشية ، وكذلك قوله تعالى : " إن الذين أوتوا العلم من قبله " وقوله تعالى : " الراسخون في العلم " وقوله تعالى : " وقل رب زدني علما " ، وقوله صلى الله عليه وسلم : العلماء ورثة الأنبياء . إنما المراد بالعلم في هذه المواطن كلها ، العلم النافع القاهر للهوى ، القامع للنفس ، وذلك متعين بالضرورة ، لأن كلام الله تعالى وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أجل من أن يُحمل على غير هذا ، والعلم النافع هو الذي يُستعان به على الطاعة ، ويُلزم الخشية من الله تعالى ، والوقوف على حدود الله تعالى ، وهو علم المعرفة بالله تعالى ، ولكن من استرسل بإطلاق التوحيد ولم يتقيد بظواهر الشريعة فقد قذف به في بحر الزندقة ، ولكن الشأن أن يكون بالحقيقة مؤيدا ، وبالشريعة مقيدا ، وكذلك المحقق فلا يكون منطلقا مع الحقيقة ولا واقفا مع ظاهر إسناد الشريعة ، وكان بين ذلك قواما ، فالوقوف مع ظاهر الإسناد شرك ، والإنطلاق مع الحقيقة من غير تقييد بالشريعة تعطيل ، ومقام الهداية قيما بين ذلك .
كل علم تسبق إليك فيه الخواطر وتتبعها الصور ، وتميل إليه النفس ، وتتلذ به الطبيعة ، فارم به وإن كان حقا ، وخذ بعلم الله الذي أنزله على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واقتد به وبالخلفاء من بعده ، وبالصحابة والتابعين من بعدهم ، وبالهداة إلى الله تعالى ، الأئمة المبرئين من الهوى ، ومتابعتهم تسلم من الشكوك والظنون والأوهام والوساوس والدعاوي الكاذبة المضلة عن الهدى وحقائقه . وحسبك من العلم النافع : العلم بالوحدانية . ومن العلم : محبة الله ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ومحبة الصحابة وإعتقاد الحق للجماعة ، وإذا أردت أن يكون لك نصيب مما لأولياء الله تعالى ، إما بإشارة صادقة أو بأعمال ثابتة لا ينقضها كتاب ولا سنة ، فارفع همتك إلى مولاك واشتغل به دون غيره .
سمعت الشيخ أبا العباس المرسي يقول : والله ما رأيت العز إلا في رفع الهمة عن الخلق .
واذكر رحمك الله ها هنا قوله تعالى : " ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين " فمن العز الذي أعز الله به المؤمن : رفع همته إلى مولاه وثقته به دون ما سواه .
واستح من الله بعد أن يكون كساك حُلة الإيمان ، حتى تميل إلى الأكوان ، أو تطلب من غيره وجود الإحسان .
وقبيح بالمؤمن أن يُنزل حاجته بغير مولاه ، مع علمه بوحدانيته وانفراده بربوبيته ، وهو يسمع قول الله تعالى " أليس الله بكاف عبده " وليذكر قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود " ومن العقود التي عاقدته عليها ألا ترفع حوائجك إلا إليه ، ولا تتوكل إلا عليه ، ورفع الهمة عن الخلق هو ميزان الفقر . " وأقيموا الوزن بالقسط " . فيظهر الصادق بصدقه والمدعي بكذبه ، وقد ابتلى الله تعالى بحكمته ووجود منته الفقراء الذين ليسوا بصادقين بإظهار كا كمنوه من الرغبة ، وأسروه من الشهوة فابتذلوا أنفسهم لأبناء الدنيا ، مُباسطين لهم ، موافقين لهم على مآربهم ، مدفوعين عن أبوابهم ، فترى الواحد منهم يتزين كما تتزين العروس .
معتنون بإصلاح ظواهرهم ، غافلون عن إصلاح سرائرهم ، ولقد وسمهم الحق وسمة كشف بها عُوارهم ، وأظهر أخبارهم ، فبعد أن كانت نسبتهم مع الله ، أن لو صدق مع الله أن يقال له : عبد كبير ، فأخرج عن هذه النسبة فصار يقال له : شيخ الأمير . أولئك الكاذبون على الله تعالى ، الصادون العباد عن صحبة أولياء الله ، لأن ما يشهده العوام منهم يحملونه على كل منتسب لله ، صادق وغير صادق ، فهم حُجُبُ أهل التحقيق ، وسُحُبُ شمس أهل التوفيق ، ضربوا طبولهم ، ونشروا أعلامهم ، ولبسوا دروعهم ، فإذا وقعت الحملة ولوا على أعقابهم ناطصين ، ألسنتهم منطلقة بالدعوى ، وقلوبهم خالية من التقوى ! ألم يسمعوا قوله سبحانه وتعالى " ليسئل الصادقين عن صدقهم " أتُرى : إذا سأل الصادقين عن صدقهم ، أيترك المدعين من غير سؤال ؟ ألم يسمعوا قوله تعالى " وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ، وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون " فهم في إظهار زي الصادقين وعملهم عمل المُعرضين .
قال الله تعالى " وأتوا البيوت من أبوابها " فاعلم أن باب الرزق طاعة الرازق ، فكيف يُطلب منه بمعصيته ، أم كيف يُستمطر فضله بمخالفته ؟ وقد قال عليه أفضل الصلاة والسلام (( لا يُنال ما عند الله بسخطه )) أي : لا يُطلب رزقه إلا برضاه ، وقد قال تعالى مبينا لذلك بقوله " ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب " ولهذا المعنى قال الشيخ أبو العباس رضي الله عنه في حزبه لما قال : وأعطنا كذا وكذا ، قال : والرزق الهني الذي لا حجاب به في الدنيا ،ولا حساب ولا سؤال ولا عقاب عليه في الآخرة ، فأهله على بساط علم التوحيد والشرع سالمين من الهوى والشهوة والطمع .
واحذر من التدبير مع الله تعالى ! فمثال المدبر مع الله كعبد أرسله السيد إلى بلد ليصنع له ثيابا ، فدخل العبد تلك البلدة فقال : أين أسكن ؟ ومن اتزوج؟ فاشتغل وصرف همته لما هنالك وعطل ما أمره السيد به حتى دعاه إليه ، فجزاؤه من السيد أن جازاه القطيعة ووجود الحجبة ، لإشتغاله بإمر نقسه عن حق سيده . كذلك أنت أيها المؤمن أخرجك الحق إلى هذه الدار وأمرك فيها بخدمته وقام ذلك بوجود التدبير منة لك ، فإن أشتغلت فيها بتدبير نفسك عن حق سيدك فقد عدلت عن سبيل الهدى ، وسلكت مسالك الردى . ومثال المدبر مع الله ، والذي لا يدبر مع الله ، كعبدين للملك: أما أحدهما فمشتغل بأوامر سيده ، لا يلتفت إلى ملبس ولا مأكل ، بل إنما هنته خدمة السيد ، فأشغله ذلك عن التعرض لحظوظ نفسه ، وأما العبد الآخر فكيفما طلبه سيده وجده يغسل ثيابه ، وفي سياسة مركوبه ، وتحسين زيه ! فالعبد الأول أولى بإقبال سيده من العبد الثاني ، والعبد إنما اشتُري للسيد لا لنفسه ، كذلك العبد البصير الموفق لا تراه إلا مشغولا بحقوق الله وامتثال اوامره ونواهيه عن محاب نفسه ومهماته ، فلما كان كذلك قام له الحق سبحانه وتعالى بكل أموامره وتوجه له بجزيل عطائه لصدقه في توكله ، لقوله تعالى " ومن يتوكل على الله فهو حسبه ". والغافل ليس كذلك ، لا تجده إلا في تحصيل دنياه وفي الأشياء التي توصله إلى هواه .
ومثال العبد مع الله في هذه الدار كالطفل مع امه ، ولم تكن الأم تدع تدبير ولدها من كفالتها ، ولا أن تُخرجه من رعايتها . كذلك المؤمن مع الله ، قائم له بحسن الكفالة ، فهو سائق إليه المنن ، ودافع عنه المحن .
ومثال العبد في الدنيا كمثل عبد قال له السيد : اذهب إلى أرض كذا وكذا ، وأحكم أمرك لأن تسافر منها في برية كذا وكذا ،وخذ أهبتك وعُدتك ، فإذا أذن له السيد في ذلك ، فمعلوم أنه قد أباح له أن يأكل ما يستعين به على إقامة بُنيته ليسعى في طلب العدة ، وليقوم بوجود الأهبة .
كذلك العبد مع الله : أوجده في هذه الدار وأمره أن يتزود منها لمعاده ، فقال الله تعالى " وتزودوا فإن خير الزاد التقوى " فمعلوم أنه إذا أمره بالزاد إلى الآخرة فقد أباح له أن يأخذ من الدنيا ما يستعين به على تزوده إلى الآخرة ، وإستعداده وتأهبه لمعاده .
ومثال العبد مع الله كمثل أجير أتى به ملك إلى داره ، وأمره أن يعمل له عملا ، فما كان الملك ليأتي بالأجير ويستخدمه في داره ويتركه من غير تغذية ، إذ هو أكرم من ذلك . فكذلك العبد مع الله : فالدنيا دار الله ، والأجير هو أنت . والعمل هو الطاعة والأجرة هي الجنة ، ولم يكن الله ليأمرك بالعمل ، ولا يسوق لك ما به تستعين عليه .
ومثال العبد مع الله تعالى كمثل عبد أمره الملك أن يقيم في أرض كذا ، ويحارب فيها العدو ويجاهده فيها ، فمعلوم أنه إذا أمره بذلك أباح له أن يأكل من مخازن تلك الأرض بالأمانة ، ليستعين به على محاربة العدو . وكذلك العباد : أمرهم الحق سبحانه وتعالى بمحاربة النفس والشيطان ومجاهدتهما ، لقوله تعالى : وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم " وقال تعالى " إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا " فلما أمر العبد بمحاربته ، أذن له أن يتناول من منابت أرضه ما يستعين به على محاربة الشيطان ، إذ لو تركت المأكل والمشرب لم يُمكنك أن تقوم بطاعته ، ولا أن تنهض لخدمته .
ومثال العبد مع الله كمثل ملك له عبيد ، فبنى دارا وبهجها وحسنها ، وتولى غراسها ، وكمل المشتهيات فيها ، في غير الموطن الذي فيه العبيد ، وهو يريد أن ينقلهم إليها ، أترى إذا كانت هذه العناية بهم فيما ادخره لهم عنده وهيأه لهم بعد الرحلة ، أيمنعهم ها هنا أن يتناولوا من مننه ، وفضلات طعامه وهو قد هيأ لهم الأمر العظيم والفضل الجسيم ؟! كذلك العباد مع الله : جعلهم في الدنيا ، وهيأ لهم الجنة ، فلا يريد أ، يمنعهم من الدنيا ولكت ما يُقيم به وجودهم ، فقال تعالى " كلو من الطيبات واعملوا صالحا " وقال تعالى " يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم " . وإذا ادخر لك الباقي ومن عليك به لا يمنعك الفاني ،فإنما يمنعك مالم يقسمه لك ، ومالم يقسمه لك فليس لك .
ومثال المهموم بأمر دنياه ، الغافل عن التزود لأخراه ، كمثل إنسان فاجأه سبع وهو يريد أن يفترسه ، ووقع عليه ذباب ، فاشتغل بذب الذباب ودفعه عن التحرز من السبع .
والحق أن هذا عبد أحمق ، فاقد وجود العقل ، ولو كان متصفا بالعقل لشغله أمر الأسد وصولته وهجومه عليه عن الفكرة في الذباب . كذلك المهتم بأمر ديناه عن التزود للآخرة ، دل ذلك منه على وجود حمقه ، إذ لو كان فهما عاقلا لتأهب للدار الآخرة التي هي مسؤول عنها ، وموقوف فيها ، فلا يشتغل بأمر الرزق ، فإن الإهتمام به بالنسبة للآخرة نسبة الذباب إلى مفاجأة الأسد وهجومه .
ومثال المدخر للأمانة كعبد الملك لا يرى أن له مع سيده شيئا ، ولا يعتمد على ادخار ما في يده ، ولا بدل له ، ولا يختار إلا ما اختاره السيد له ، فإذا فهم هذا العبد أن الإمساك مُراد السيد ، أمسك لسيده لا لنفسه ، حتى يتخير موضع صرفه ، فيكون له صارفا حين يفهم من سيده إرادة صرفه ، فهذا بإمساكه غير ملوم ، لأنه أمسك لسيده لا لنفسه ، كذلك أهل ال
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى