تاج العروس الحاوي لتهذيب النفوس
تاج العروس الحاوي لتهذيب النفوس
ايها الناس
توبوا الى الله جميعاً
أيها العبد اطلب التوبة من الله في كل وقت فإن الله تعالى قد ندبك إليها ، قال تعالى " إن الله يُحب التوابين ويُحب المُتطهرين " وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني لأستغفر الله في اليوم سبعين مرة .
فإن أردت التوبة فينبغي لك ألا تخلو من التفكر طول عُمرك فتفكر فيما صنعت في نهارك فإن وجدت معصية فوبخ نفسك على ذلك واستغفر الله وتُب إليه ، فإنه لا مجلس مع الله أنفع لك من مجلس تُوبخ فيه نفسك . ولاتوبخها وأنت ضاحكٌ فرح ، بل وبخها وانت مُجدٌ صادق مُظهرٌ للعبوسة حزين القلب منكسر ذليل . فإن فعلت ذلك أبدلك الله بالحزن فرحا وبالذل عزا وبالظلمة نورا وبالحجاب كشفا .
وعن الشيخ مكين الدين الأسمر رحمه الله تعالى وكان من السبعة الأبدال قال : كنت في إبتداء أمري أخيط وأتقوت من ذلك وكنت أعد كلامي بالنهار فإذا جاء المساء حاسبت نفسي فأجد كلامي قليلا فما وجدت فيه من خير حمدت الله وشكرتع ، وما وجدت فيه من غير ذلك تُبتُ إلى الله واستغفرته . إلى أن صار بدلا رضي الله عنه .
واعلم أنه إذا كان لك وكيل يحاسب نفسه ويحقاققها فأنت لا تحاسبه ، لمحاسبته نفسه ، وإن كان وكيلا غير محاقق لنفسه فأنت تحاسبه وتُحاققه وتُبالغ في محاسبته . فعلى هذا ينبغي أن يكون عملك كله لله تعالى ولا ترى أنك تفعل فعلا والله تعالى لا يحاسبك ولا يُحاققك .
وسوف نكمل لكم لاحقا إن شاء المولى تعالى تباعا.....
وإذا وقع من العبد ذنب وقع معه ظُلمة ، فمثال المعصية كالنار والظلمة دُخانها ، كمن اوقد في بيت سبعين سنة ، ألا ترى أنه يسود ؟ كذلك القلب يسود بالمعصية فلا يطهر إلا بالتوبة إلى الله ، فصار الذل والظلمة والحجاب
مقارنا للمعصية ، فإذا تبت إلى الله زالت آثار الذنوب .
ولا يدخل عليك الإهمال إلا بإهمالك عن متابعة النبي صلى الله عليه وسلم ولا تُحصل لك الرفعة عند الله تعالى إلا بمتابعة النبي صلى الله عليه وسلم والمتابعة له عليه الصلاة والسلام على قسمين :
جلية
خفية
فالجلية : كالصلاة والصيام والزكاة والحج والجهاد وغير ذلك .
والخفية : أن تعتقد الجمع - الرؤية الحق وحد سبحانه - في صلاتك والتدبر في قراءتك ، فإذا فعلت الطاعة كالصلاة والقراءة ولم تجد فيها جمعا ولا تدبرا فاعلم أن بك مرضا باطنا من كبر أو عُجب أو غير ذلك ، قال تعالى " سأصر عن ءايتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق " فيكون مثالك كالمحموم الذي يجد في فمه السُكر مُرا . فالمعصية مع الذل والإفتقار خير من الطاعة مع العز والإستكبار .
قال الله تعالى حكاية عن ابراهيم الخليل " فمن تبعني فإنه مني " فمفهوم هذا أن من لم يتبعه ليس منه وقال تعالى حكاية عن نوح " إن ابني من أهلي " فأجابه سبحانه وتعالى " قال يا نوح إنه ليس من اهلك إنه عمل خير صالح " فالمتابعة تجعل التابع كأنه جزء من المتبوع وإن كان أجنبيا كسلمان الفارسي رضى الله عنه لقوله رسول الله : سلمان منا أهل البيت . ومعلوم أن سلمان من أهل فارس ولكن بالمتابعة قال عنه رسول الله تعليما فكما أن المتابعة تُثبت الإتصال كذلك عدمها يُثبت الإتصال .
وقد جمع الله الخير كله في بيت وجعل مفتاحه متابعة النبي صلى الله عليه وسلم ، فتابعه بالقناعة بما رزقك الله تعالى ، والزهد والتقلل من الدنيا وترك ما لا يعني من قول وفعل ، فمن
فُتح له باب المتابعة فذلك دليلٌ على محبة الله له . قال تعالى " قُل إن كنتم تُحبون الله فاتبعوني يُحببكم اللهُ ويغفر لكم ذُنُوبكم واللهُ غفورٌ رحيم "
فإذا طلبت الخير كله فقل : اللهم إني أسألك المتابعة لرسولك صلى الله عليه وسلم في الأقوال والأفعال . ومن أردا ذلك فعليه بعدم الظلم لعباد الله في أعراضهم وأنسابهم فلو سلموا من ظلم بعضهم بعضا لانطلقوا إلى الله ولكنهم معوقون كالميدان - من أثقلته الديون - المعوق بسبب من يطلبه.
واعلم أنك لو كنت مُخصصا عند الملك مقربا منه وجاء يطلبك بدين ، ضيق عليك ولو كان نزرا يسيرا ، فكيف بك إذا جئت يوم القيامة ومئةُ ألف إنسان أو أكثر يطلبونك بديون مختلفة من أخذ مال ، وقذف عرض ، وغير ذلك فكيف يكون حالك ؟!
المُصابُ حقا من محقته - ذهبت به ومحته - الذنوب والشهوات حتى جعلته كالشن البالي ، هذا المنكوب المعزى ، ذهبت مآكله وشهواته ملأ بها المرحاض وأرضى بها زوجته ، ويا ليتها كانت من حلال !
من ظفر بالتوبة ظفر بحب الله
فالأول من المقامات : التوبة ، ولا يقُبل ما بعدها إلا بها .مثال العبد إذا فعل معصية كالقدر الجديد يُوقد تحتها النار ساعة فتسود ، فإن بادرت إلى غسلها انغسلت من ذلك السواد ، وإن تركتها وطبخت فيها مرة بعد مرة ثبت السواد فيها حتى تتكسر ، ولا يُفيد غسلها شيئا . فالتوبة هي التي تغسل سواد القلب فتبرزُ الأعمال وعليها رائحة القبول ، فاطلب من الله تعالى التوبة دائما فإن ظفرت بها
فقد طاب وقتك ، لأنها موهبة من الله تعالى يضعها حيث شاء من عباده ، وقد يظفر بها العبد المشقق الأكعاب دون سيده ، وقد تظفر بها المرأة دون زوجها ، والشاب دون الشيخ ، فإن ظفرت بها فقد أحبك الله لقوله تعالى " إن الله يُحبُ التوابين ويُحبُ المُتطهرين " إنما يغتبط بالشيء من يعرف قدره ولو بدرت الياقوت بين الدواب لكان الشعير أحب إليهم ، فانظر من أي الفريقين أنت ؟
فإن تبت فأنت من المحبوبين ، وإن لم تتب فأنت من الظالمين ، قال تعالى :" ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون " .
ومن تاب ظفر ، ومن لم يتب خسر . ولا تقطع يأسك وتقول : كم أتوب وأنقض ، فالمريض يرجو الحياة ما دامت فيه الروح .
وإذا تاب العبد فرحت به داره من الجنة ، وتفرح السماء والأرض ورسول الله ، فالحق سبحانه لم يرض أن تكون مُحبا بل محبوبا ، وأين المحبوب من المحب ؟!!
أف لعبد يعلم إحسان المحسن فيجترىء على معصيته ، ولكن ما عرف إحسانه من آثر عصيانه ، وما عرف قدره من لم يراقبه ، وما ربح من اشتغل بغيره وعلم أن النفس تدعوه
إلى الهلكة فتبعها ، وعلم أن القلب يدعوه إلى الرُشد فعصاه ، وعلم قدر المعصي فواجهه بالمعصية - ولو علم اتصافه بعظمته لما قابله بوجود معصيته - وعلم قُرب مولاه وأنه يراه فسارع لما عنه نهاه وعلم أثر الذنب المرتب عليه دنيا وأخرى ، وغيبا وشهادة فما استحيى من ربه ، ولو علم أنه في قبضته لما قابله بمخالفته
الاثار الظاهرة و الباطنة للمعصية
واعلم ان المعصية تتضمن : نقض العهد ، وتحليل عقد الوُد ، والإيثار على المولى والطاعة للهوى وخلع جلباب الحياء والمبارزة لله بما لا يضى ، مع ما في ذلك من الآثار الظاهرة من ظهور الكدورة في الأعضاء والجمود في العين والكسل في الخدمة وترك الحفظ للحُرمة وظهور كسب الشهوات وذهاب بهجة الطاعات .
وأما الآثار الباطنة : فكالقساوة في القلب ، ومعاندة النفس وضيق الصدر بالشهوات وفُقدان حلاوة الطاعات وترادف الأغيار المانعة من بروق شوارق الأنوار ، واستيلاء دولة الهوى إلى غير ذلك من ترادف الارتياب ونسيان المآب وطول الحساب .
ولو لم يكن في المعصية إلا تبدل الإسم لكان ذلك كافيا فإنك إذا كنت طائعا تسمى بالمحسن المقبل وإذا كنت عاصيا انتقل أسمُك إلى المُسمى المُعرض . هذا في انتقال الاسم فكيف بانقال الأثر من تبدل حلاوة الطاعة بحلاوة المعصية ولذاذة الخدمة بلذاذة الشهوة ؟!
هذا في تبدل الأثر فكيف بتبدل الوصف ؟ بعد أن كنت موصوفا عند الله بمحاسن الصفات ينعكس الأمر فتتصف بتبدل المرتبة ؟ فبعد أن كنت عند الله من الصالحين صرت عنده من المفسدين وبعد أن كنت عند الله من المتقين صرت عنده من الخائنين .
فإن كانت الذنوب منفتحة في وجهك فاستغث بالله والجأ إليه واحثُ التراب على رأسك وقُل : اللهم انقلني من ذُل المعصية إلى عز الطاعة . وزُر ضرائح الأولياء والصالحين وقل يا أرحم الراحمين .
أتريد أن تجاهد نفسك وأنت تُقويها بالشهوات حتى تغلبك ؟! ألا فقد جهلت! فالقلب شجرة تُسقى بماء الطاعة ، وثمراتها مواجيدها :
فالعين ثمرتها الاعتبار
الأُذُنُ ثمرتها الإستماع للقرآن
اللسان ثمرته الذكر
اليدان والرجلان ثمرتهما السعي في الخيرات
فإذا جف القلب سقطت ثمراته فإن أجدب فأكثر من الأذكار، ولا تكن كالعليل يقول : لا أتداوى حتى أجد الشفاء ، فيقال له : لا تجد الشفاء حتى تتداوى ، فالجهاد ليس معه حلاوة وما معه إلا رؤوس الأسنة ، فجاهد نفسك ، هذا هو الجهاد الأكبر واعلم ان الثكلى لا عيد لها ، بل العيد لمن قهر نفسه ، لا عيد إلا لمن جمع شمله .
جاز بعضهك على دير راهب فقال له : يا راهب ، متى عيد هؤلاء القوم ؟ قال : يوم يغفرُ الله لهم .
ما مثالك مع نفسك إلا كمن وجد زوجته في حاة خمار ، فأتاها بالملابس الحسنة والمآكل الطيبة ، وإذا تركت الصلاة أصبح يُطعمها الهرائس والألوان .
بقى بعضهم أربعين سنة لا يحضر الجماعة لما يشمُ من نتن قلوب الغافلين ، فما أعرفك بمصالح الدنيا ، وما أجهلك بمصالح آخرتك !
مثال الدنيا عندك كمن خرج إلى الضيعة ، واجتهد فخزن الأقوات ، فأنت قد أتيت بما يعود نفعه عليك في وقته ، وإن خزنت حيات الشهوات وعقارب المعصية هلكت . كفى بك جهلا أن الناس يخزنون الأقوات لوقت حاجتهم إليها ، وأنت تخزنُ ما يضرك وهي المعاصي ! هل رأيت من يأتي بحيات فيربيها في داره ؟ فها أنت تفعل ذلك .
وأضرُ ما يُخاف عليك محقرات الذنوب ، لأن الكبائر ربما استعظمتها فتُبت منها ، واستحقرت الصغائر فلم تتب منها . فمثالك كمن وجد أسدا فخلصه الله منه ، فوجد بعده خمسين ذئبا فغلبوه . قال الله تعالى " وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم " والكبيرة حقيرة في كرم الله ، وإذا السُم يقتل مع صغره . والصغيرة كالشرارة من النار ، والشرارة قد تحرق بلدة .
من أنفق عافيته وصحته في معصية الله ، فمثاله كمن خلف له أبوه ألف دينار ، فاشترى بها حيات وعقارب وجعلها حوله ، تلدغه هذه مرة وتلسعه هذه أخرى ، أفما تقتله ؟! وأنت تمحق الساعات في مخالفته ، فما مثالك إلا كالحدأة تطوف على الجيفة ، حيثما وجدتها انحطت عليها ، فكن كالنحلة ، صغيرٌ جرمُها ، عظيمة همتها ، تجني طيبا وتضع طيبا .
طلما تمرغت في مواطن المحت ، فتمرغ في محاب الله عز وجل ، فهذه الحقيقة تُبين طريقك ولكن من أماتته الغفلة لم ترُده النكبات
لأن المرأة الناقصة العقل يموت ولدها وهي تضحك ، فكذلك أنت تنكب عن قيام الليل وعن صيام النهار وفي جميع جوارحك ولا تتألم!!
وما ذلك إلا لأن الغفلة قد أماتت قلبك ، لأن الحيَ يؤلمه نقرُ الإبرة ، ولو قُطع الميتُ بالسيوف لم يتألم ،فأنت حينئذ ميتُ القلب ، فاجلس مجلس الحكمة ففيه نفحةٌ من نفحات الجنة
تجدها في طريقك وفي دارك وفي بيتك ، فلا يفُتك المجلس ولو كنت على معصية ولا تقل: ما الفائدة في حضور المجلس وأنا أعصي ولا أقدر على ترك المعصية ؟ بل على الرامي أن يرمي ، فإن لم يأخذ اليوم يأخذ غدا .
اعلم يا هذا: إياك والمعصية فقد تكون سببا لتوقف الرزق فاطلب من الله التوبة
فإن قُبلت وإلا فاستغث بالله وقل :" ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسؤين " ولا تكن كمن أتى عليه أربعون سنة ولم يقرع باب الله قط .
وأكثر ما يخاف عليك سوء الخاتمة والعياذ بالله تعالى ، بسبب إطفاء جمرة الإيمان بسواد العصيان وهي الذنب حتى يسود القلب من غير توبة .
إياك أن تتهاون في أعمالك وتختار الطيبات لمرحاضك ! واحذر نفسك التي بين جنبيك فهي التي تحطب عليك ثم لا تُفارق صاحبها إلى الممات والشيطان يفارق في رمضان لأنه تُغل فيه الشياطين وربما تجد من يقتل فيه ويسرق
فهذا من النفس . فإذا مالت إلى المعصية فذكرها بعذاب الله والقطيعة عن الله بسببه ، والعسل المسموم يُترك من العلم بحلاوته ، لما فيه من وجود الأذى لقوله صلى الله عليه وسلم : الدنيا حلوة خضرة . ويروى أيضا : جيفة قذرة .
حلوة خضرة عند أهل الغفلة وجيفة قذرة عند العقلاء ، حلوة خضرة عند النفوس ، وجيفة قذرة عند مرايا القلوب ، حلوة خضرة للتحذير ، وجيفة قذرة للتنفير ، فلا تخدعنكم بحلاوتها فإن عاقبتها مُرة .
إذا قيل لك : من المؤمن ؟ فقل : الذي اطلع على عيب نفسه ولم ينسب أحدا من العباد إلى عيب ، وإذا قيل لك : من المخذول ؟ فقل : الذي يَنسُبُ العباد إلى العيب ويُبريء نفسه منه .
ومما تمادى عليه أهل الزمان : مُباسطتهم ومؤانستهم للعاصين ولو أنهم عبسوا في وجوههم لكان ذلك زجرا لهم عن المعصية .
لو فُتح لك باب الكمال لما رجعت إلى الرذائل ، أرأيت من فُتح له باب القصور هل يرجع إلى المزابل ؟! ولو فتح لك باب الأُنس بينك وبينه ما طلبت من تأنس به . لو أختارك لربوبيته ما قطعك عنه .
لو كرمت عليه ما رماك لغيره .
وإذا عزل عنك محبة مخلوق فافرح فهذا من عنايته بك ، ولا تكون معصية إلا والذل معها ، أفتعصيه ويُعزك ؟! كلا ! فقد ربط العز مع الطاعة ، والذل مع المعصية فصارت طاعته نورا وعزا وكشف حجاب ، وضدها معصيةٌ وظُلمة وذل وحجاب بينك وبينه ، ولكن
ما منعك من الشُهود إلا عدم وقوفك مع الحدود ، واشتغالك بهذا الوجود .
إذا عصى ولدك فأدبه بالشرع ، ولا تقطعه ، بل قابله بالعُبوسة ليكف عن المعصية . وأكثر ما يدخل على المؤمن الدخل - العيب والريبة - إذا كان عاصيا ، فإما أن يفضحوه وإما أن يستهزئوا به ، فإذا فعلوع ذلك فقد أخطؤوا الطريق .
إذا عصى المؤمن فقد وقع في ورطة عظيمة ، وطريقه أن تفعل معه كما فعلت مع ولدك إذا عصى ، تُعرض عنه في الظاهر وتكون راحما له في الباطن ، وتطلب له الدعاء بالغيب .
كفى بك جهلا أن تحسد أهل الدنيا على ما أعطُوا ، وتشغل قلبك بما عندهم ، فتكون أجهل منهم ، لأنهم اشتغلوا بما أعطوا واشتغلت أنت بما لم تُعط .
ترمد عينك فتعالجها ، وما سبب ذلك إلا أنك ذُقت بها لذة الدنيا ، فتعالجها حتى لا يفوتك النظر إلى مستحسناتها ، وترمد بصيرتك أربعين سنة فلا تعالجها ؟!
واعلم أن عُمرا ضُيع أوله حريٌ أن يُحفظ آخره . كامرأة كان لها عشرة أولاد مات منهم تسعة وبقى واحد ، أليست تردُ وجدها على ذلك الواحد ؟! وأنت قد ضيعت أكثر عُمرك فاحفظ بقيته ، وهي صُبابة يسيرة .
والله ما عُمرك من اول وُلدت بل عُمرك من اول يوم عرفت الله تعالى .
شتان بين أهل السعادة وأهل الشقاوة : فأهل السعادة إذا رأوا إنسانا على معصية الله أنكروا عليه الظاهر ، ودعوا له في الباطن . وأهل الشقاوة يُنكرون عليه تشفيا فيه ، وربما ثلبوا عليه عرضه ، فالمؤمن من كان ناصحا لأخيه في الخلوة ، ساترا له في الجلوة . وأهل الشقاوة بالعكس : إذا رأوا إنسانا على معصية أغلقوا عليه الباب وفضحوه فيها ، فهؤلاء لا تُنور بصائرهم ، وهم عند الله مبعدون .
إذا أردت أن تختبر عقل الرجل فانظر إليه إذا ذكرت له شخصا : فإن وجدته يطوف على محمل سوء حتى يقول لك: خلنا منه ذاك فعل كذا وكذا ! فاعلم أن باطنه خراب وليس فيه معرفة ، وإذا رأيته يذكره بخير ، أو يذكر له ما يوصف بالذم ويحمله على محمل حسن ويقول : لعله سها أو له عذر أو ما أشبه ذلك فأعلم أن باطنه معمور فإن المؤمن يعمل على سلامة عرض أخيه المسلم .
من علم قرب رحيله اسرع في تحصيل الزاد
من قارب فراغ عُمره ويريد أن يستدرك ما فاته ، فليذكر بالأذكار الجامعة ، فإنه إذا فعل ذلك صار العمر القصير طويلا كقوله : سبحان الله العظيم وبحمده
عدد خلقه ورضا نفسه ومداد كلماته . وكذلك من فاته الصيام والقيام ، أن يشغل نفسه بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنك لو فعلت في جميع عمرك كا طاعة ثم صلى الله عليك صلاة واحدة
رجحت الصلاة الواحدة ما عملته في عمرك كله جميع الطاعات لأنك تصلي على قدر وُسعك وهو يُصلي على حسب ربوبيته . هذا إذا كانت صلاة واحدة ، فكيف إذا صلى عليك عشرا بكل صلاة ؟! كما جاء بالحديث الصحيح .
فما أحسن العيش إذا أطعت الله فيه بذكر الله تعالى أو الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم .
يُروى أنه ما من صيد يُصاد ، ولا شجرة تُقطع إلا بغفلتها عن ذكر الله تعالى ، لأن السارق لا يسرق بيتا وأهله أيقاظ بل على غفلة أو النوم .
من علم قُرب رحيله أسرع في تحصيل الزاد ، ومن علم أن إحسان غيره لا ينفعه جد في الإحسان ، ومن أخرج ولم يحسب خسر ولم يدر ، ومن وكل وكيلا واطلع على خيانته عزله . كذلك نفسك قد اطلعت على خيانتها فاعزلها زضيق عليها المسالك .
إذا رأيت فيك الإعراض والشهوة والغفلة فهذا وصفك ، وإذا رأيت فيك الإنابة والخشية والزهد فهذا من صنائع الله .
مثال ذلك : إذا رأيت ببلادك الحلفاء - نبت مائي - والشوك والعوسج فهذا نبات أرض بلدك ، وإذا رأيت بها العود الرطب والمسك والعنبر فاعلم أنه مجلوب من صنائع الله ليس من نبات أرضك : فالمسك من غزلان عراقها ، والعنبر من بحر هندها .
مثال الإيمان معك إذا عصيت الله تعالى كالشمس المكسوفة ، أو كالسراج إذا غطيته بصحفة ، هو موجود ولكن منع نوره الغطاء .
ثم إنك تحضر المجلس في الجامع ليتوفر عقلك ، وإن كان عمرك قليلا فيصير كثيرا بحصول الإيمان والخشوع والخضوع ، والخشية والتدبر والتذكر ونحوها . فلو عرفت الإيمان ما قاربت العصيان ، فلا غريم أمطلُ من النفس ولا عدو أعظم من الشيطان ولا معارض أقوى من الهوى .
ولا يدفع المدد الهابط مثلُ الكبر ، لأن الغيث لا يقرُ إلا على تلأرض المنخفضة لا فوق رؤوس الجبال ، فكذلك قلوب المتكبرين تنتقل عنها الرحمة وتنزل إلى قلوب المتواضعين . والمراد بالمتكبرين : من يردُ الحق ، لا من يكون ثوبه حسنا ، ولكن الكبر بطر الحق ، أي دفعه واحتقار الناس .
ولا تعتقد أن الكبر لا يكون إلا في وزير أو صاحب دنيا ، بل قد يكون فيمن لا يمكلك عشاء ليلة ، وهو يُفسد ولا يُصلح لأنه تكبر على حق الله تعالى .
ولا تعتقدأن المنكوب من كان في الأسر أو في السجن بل المنكوب من عصى الله وأدخل في هذه المملكة الطاهرة نجاسة المعصية .
كثيرٌ من أنفق الدنانير والدراهم ولكن من أنفق الدمع قليل .
الأحمق من مات ولده وجعل يبكي عليه ولا يبكي على ما فاته من الله عز وجل ، فكأنه يقول بلسان حاله : أنا أبكي على ما كان يشغلني عن ربي ، بل كان ينبغي له الفرح بذلك ، ويقبل على مولاه لأنه أخذ نته ما كان يشغله عنه .
وقبيحٌ بك أن تشيب وأنت طفلُ العقل ، صغيره ، ولا تفهم مراد الله منك ! فإن كنت عاقلا فابك على نفسك قبل أن يُبكى عليك ، فإن الولد والزوجة والخادم والصديق لا يبكون عليك إذا مُت ، بل يبكون على ما فاتهم منك ، فسابقهم أنت بالبكاء وقل : يحقُ لي أن أبكي على فوات حظي من ربي قبل أن تبكوا علي.
كفى بك جهلا أن يعاملك مولاك بالوفاء ، وأنت تعامله بالجفاء .
ليس الرجل من صاح بين الناس في المجالس ، إنما الرجل من صاح على نفسه وردها إلى الله تعالى .
من عال - حمل - هم الدنيا وترك هم الآخرة كان كمن جاءه أسد يفترسه ثم قرصه برغوث ، فاشتغل به عن الأسد ، فإن من غفل عن الله اشتغل بالحقير ، ومن لم يغفل عنه لم يشتغل إلا به . فأحسنُ أحوالك
أن تفوتك الدنيا لتحصيل الآخرة .
يا طالما فاتتك الآخرة لتحصيل الدنيا !. ما أقبح الخوف بالجندي ، وما أقبح اللحن بالنحوي ! وما أقبح طلب الدنيا لمن يُظهر الزهد فيها .
ليس الرجل من يُربيك لفظه ، إنما الرجل من يُربيك لحظه .
عن الشيخ أب العباس المرسي رضي الله عنه أنه قال : إذا كانت السلحفاة تُربي أفراخها بالنظر كذلك الشيخ يربي مريده بالنظر ، لأن السلحفاة تبيض في البر ، وتتوجه إلى جانب النهر ، وتنظر إلى بيضها ، فيربيهم الله لها بنظرها إليهم .
إياك أن تخرج من هذه الدار وما ذُقت حلاوة حبه . ليس حلاوة حبه في المآكل والمشارب ، لأنه يشاركك فيها الكافر والدابة ، بل شارك الملائكة في حلاوة الذكر ، والجمع على الله تعالى ، لأن الأرواح لا تحتمل رشاش النفوس ، فإذا انغمست في جيفة الدنيا
لا تصلح للمحاضرة ، لأن حضرة الله تعالى لا يدخلها المتلطخون بنجاسة المعصية . فطهر قلبك من العيب يفتح لك باب الغيب ، وتُب إلى الله وارجع إليه بالإنابة والذكر ومن أدام قرع الباب يُفتح له ، ولولا الملاطفة ما قُلنا لك ذلك ، لأنه كما قالت رابعة العدوية رضي الله عنها :
ومتى أُغلق هذا الباب حتى يُفتح ؟!.
ولكن هذا باب يوصلك إلى قربه . وإياك وذهول القلب عن وحدانية الله تعالى ،فإن أول درجات الذاكرين استحضار وحدانيته تعالى .وما ذكره الذاكرون ، وفُتح عليهم إلا باستحضار ذلك ، وما طردوا إلا بذكرهم مغلبة الذهول عليهم . وتستعين على ذلك بقمع الشهوتين : البطن والفرج.
ولا يُضادك في الله إلا نفسك .
ما أكثر توددك للخلق ، زما أقل توددك للحق !
لو فُتح لك باب التودد مع الله لرأبت العجائب : ركعتان في جوف الليل : تودد. الصدقة على المساكين : تودد. عيادتك للمرضى : تودد . صلاتُك على الجنائز تودد
إعانتك لأخيك المسلم : تودد.
إماطتك الأذى عن الطرق : تودد .
ولكن السيف المطروح يحتاج إلى ساعد ، ولا عبادة أنفع لك من الذكر ، لأنه يُمكن الشيخ الكبير والمريض الذي لا يستطيع القيام والركوع والسجود .
واعلم أن العلماء والحكماء يُعرفونك كيف تذخل إلى الله تعالى .
هل رأيت مملوكا أول ما يُشترى يصلح للخدمة ؟ بل يُعطى لمن يُربيه ويُعلمه الأدب ، فإن صلح وعرف الأدب قدمه للملك . كذلك الأولياء يصحبهم المُريدون حتى يُزجوا بهم إلى الحضرة ، كالعوام إذا أراد أن يعلم الصبي العوم يُحاذيه إلى أن يصلح
للعوم وحده ، فإذا صلح زجه في اللجة وتركه .
وإياك أن تعتقد أن لا يُنتفع بالأنبياء والأولياء والصالحين ، فإنهم وسيلة جعلها الله إليه لأن كل كرامة للولي هي شهادة بصدق النبي عليه الصلاة والسلام لأنها جرت على أيدي الأولياء مثل خرق العادات .
عن الشيخ أبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه أنه قال : كل نفسك وزنها بالصلاة ، فإن انتعت عن الحظوظ فاعلم أنك سعدت ، وإلا فابك على نفسك إذا جررت رجلك إلى الصلاة جرا ، فهل رأيت حبيبا لا يريد لقاء حبيبه؟ فمن أراد أن يعرف حقيقته عند الله ، وينظر حاله مع الله ، فلينظر إلى صلاته :إما بالسكون والخشوع
أو بالغفلة والعجلة ، فإن لم تكن بالوصفين الأولين فاحث التراب على رأسك ، فإن من اجالس صاحب المسك عبق عليه من ريحته ، فإن الصلاة مجالسة الله تعالى ، فإذا جالسته ولم يحصل لك منه شيء دل ذلك على مرض في قلبك وهو إما كبر ، أو عجب أو عدم أدب .
قال الله تعالى " سأصرف عن ءاياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق " فلا ينبغي لمن صلى أن يُسرع الخروج بل يذكر الله تعالى ويستغفره من تقصيره فيها ، فرب صلاة لا تصلح للقبول فإن استغفرت الله بعدها قُبلت .
كان النبي عليع الصلاة والسلام إذا صلى استغفر الله ثلاث مرات .
كم فيك من الكوامن فإذا أوردت عليها الواردات أظهرتها ، وأعظمها ذنبا : الشك في الله ، والشك في الرزق شك في الرازق .
الدنيا أحقر من أن يُعال همها . صغرت الهمم فعالت صغيرا ، فلو كنت كبيرا لعلت الكبير . من عال الهمم الصغير وترك الهم الكبير استقللنا عقله .
قُم أنت بما يلزمك من وظائف العبودية ، وهو يقوم بما التزمه . أيرزقُ الجُعل والوزغ وبنات وردان - حشرات - وينسى أن يرزقك ؟! قال الله تعالى" وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسئلك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى " .
كلُ من كان مراعيا لحق الله تعالى، لا يُحدثُ الله حدثا في المملكة إلا أعلمه . نظر بعضهم إلى بعض جماعة فقال لهم : هل فيكم من إذا أحدث الله سبحانه وتعالى في المملكة حدثا أعلمه ؟ قالوا : لا . فقال لهم : ابكوا على أنفسكم .
كان المتقدمون من السلف رضي الله عنهم يسألون الشخص عن حاله ليستثيروا منه الشكر ، والناس اليوم ينبغي ألا يسألوا فإنك إن سألت تستثير منهم الشكوى .
عن بعض النباشين أنه تاب إلى الله تعالى ، فقال يوما لشيخه : يا سيدي نبشت ألف قبر ، فوجدت وجوههم مُحولة عن القبلة! فقال له الشيخ : يا ولدي ، ذلك من شكهم في رزقهم .
يا عبدالله ، إذا طلبت من الله فاطلب منه أن يُصلحك من كل الوجوه ، وأن يُصلحك بالرضى عنه في تدبيره لك .
ثم إنك عبد شرود طلب منك أن تعتبر إليه ففرت منه ، فإن الفرار بالأفعال والأحوال والهمم . فإذا كنت في صلاتك تسهو وفي صومك تلغو وفي لُطف الله تشكو ، أفما أنت شارد ؟
عن الشيخ أبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه أنه قال: بقيت مرة في البادية
ثلاثة أيام لم يُفتح لي بشيء ، فجاز علي بعض النصارى فرأوني متكئا فقالوا : هذا قسيس من المسلمين ،
فوضعوا عند رأسي شيئا من الطعام وانصرفوا ، فقلت : يا للعجب ! كيف رزقت على أيدي الأعداء ، ولم أرزق على أيدي الأحباء ؟! فقيل : ليس الرجل
من يُرزق على أيدي الأحباء ، إنما الرجل من يُرزق من أيدي الأعداء .
يا هذا أجعل نفسك كدابتك ، كلما عدلت عن الطريق ضربتها فرجعت إلى الطريق ، ولو فعلت مع نفسك مثل ما تفعل بجُبتك كلما اتسخت غسلتها ، وكلما تقطع منها شيء رقعته
وجددته كانت لك السعادة . فرُب رجل ابيضت لحيته وما جلس مع الله جلسة يُحاسب فيها نفسه فإن الشيخ مكين الدين الأسمر رحمه الله يقول : كنت في البداءة أحايب نفسي عند المساء فأقول : تكلمت اليوم بكذا وكذا ، فأجد ثلاث كلمات
أو أربعا . وكان عنده يوما شيخ عمره نحو تسعين سنة ، فقال له: يا سيدي أشكو إليك كثرة الذنوب . فقال الشيخ : هذا شيء لا نعرفه وما أعرف أني عملت ذنبا قط .
كما أن للدنيا أبناء من استند إليهم كفوه ، فكذلك للآخرة أبناء من استند إليهم أغنوه . ولا تقل : طلبنا فلم نجد ، فلو طلبت بصدق لوجدت . وسبب عدم وجدانك عدم استعدادك ، فإن العروس لا تُجلى على فاجر ، فلو طلبت رؤية العروس لتركت الفجور ، ولو تركت الفجور لرأيت الأولياء
والأولياء كثيرون ، لا ينقص عددهم ، ولو نقص واحد منهم لنقص نور النبوة .
إذا أحببت حبيبا لن تصل إليه حتى تكن أهلا للوصول إليه ، وذلك حتى تطهر مما أنت فيه من الزلل.
قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رحمه الله : أولياء الله عرائس والعرائس لا يراها المجرمون ، إذا ثقلت عليك الطاعة والعبادة ، ولم تجد لها حلاوة في قلبك ، وتخف عليك المعصية ، وتجد لها حلاوة ، فاعلم أنك لم تصدق في توتبتك ، فإنه لو صح الأصل لصح الفرع.
وليتك أطعت مولاك كما يُطيعك عبدك ، فإنك تُحبه ناهضا في خدمتك دائما ، وأنت تُحب الطاعة وتطلب أن تفرغ منها مسرعا ، كأنك تنقر بالمتقير ، فياليت بصرا نظرت به محاسن غيره عُوضت عنه العمى .
كم حُصل لك الهوان بوقوفك على أبواب المخلوقين ! وكم أهانوك وأنت لا ترجع إلى مولاك !!
عن الشيخ مكين الدين الأسمر رحمه الله : رأيت في المنام حُورية وهي تقول: أنا لك وأنت لي . قال : فبقيت نحو شهرين أو ثلاثة أشهر لا أستطيع أن أسمع لمخلوق كلاما إلا تقيأت لأجل طيب كلامها .
كفاك من الإدبار أن تفتح عينيك في هذا الدار ، قال الله تعالى :" ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ".
قدر لك الصحة والمرض والغنى والفقر ، والفرح والحُزن ، حتى تعرفه بأوصافه .
من صحبك يوما أو يومين ، ولم ير منك نفعا تركك وصحب غيرك ، وأنت تصحب نفسك أربعين سنة ولم تر منها نفعا فقل لها ارجعي يا نفس إلى رضا ربك ! طالما وافقتك في شهواتك ، فتبدلي بعد البطالة بالإشغال بالله ، وبعد الكلام بالصمت ، وبعد الوقوف بالأبواب :
الجلوس بالخلوة ، وبعد الأنس بالمخلوقين : الأنس بالخالق وبعد قُرناء السوء : مُعاشرة أهل الخير والصلاح .
اجعل أحوالك على ضد ما كنت عليه :
اجعل بدل السهر في معصية الله : السهر في طاعة الله ، وبعد الإقبال على أهل الدنيا : الإعراض عنهم والإقبال على الله ، وبعد الإصغاء لكلامهم : الإصغاء والإستماع لكلام الله عز وجل وذكره ، وبعد الأكل بالشره والشهوة : الأكل القليل الذي يُعينك على الطاعة .
قال الله تعالى:" والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سُبلنا " .إنما عصى الله من لم يعرف ثوابه . فلو أطلعوا على عذاب الله لما غفلوا ، ولو اطلعوا على ما أعد الله لأهل الجنة لما تركوها طرفة عين
إذا صحبت أبناء الدنيا جذبوك إليها ، وإذا صحبت أبناء الآخرة جذبوك إلى الله .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " المرءُ على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل " . كما تختار لنفسك المآكل الطيبة التي لا ضرر فيها ، والزوجة الحسناء لتتزوجها
فكذلك ى تُوادد إلا من يُعرفك الطرق إلى الله سبحانه وتعالى ، واعلم أن لك ثلاثة أخلاء :
أحدهما : المال ، تفقده عند الموت .
والثاني : العيال ، يتركونك عند القبر .
والثالث : عملك ، لا يُفارقك أبدا .
فاصحب من يُدخل معك قبرك وتأنس به ، فالعاقل من عقل عن الله أوامره ونواهيه .
مثالك كالجُعل يعيش في الروث والعذرة ، وإذا قُرب إليه الورد مات من رائحته . فمن الناس من هو جُعلي الهمة ، فراشي العقل ، فإن الفراش لا يزال يرمي نفسه في النار حتى تُحرقه ، فكذلك أنت ترمي نفسك في نار المعصية عمدا
فلو أردت السير إلى الله تعالى شددت المحزم ، فأين الهمة ؟!!
إنما تأكل لتعيش ولا تعيش لتأكل ، فإن فعلت ذلك فمثالك على المداود كثير ومثلك في الدواب كثير ، فإن فعلت ذلك فإن أسبق الخيل ما ضُمر . تقول : هذه الليلة أُقلل الأكل فإذا حضر الطعام فكأنه حبيبٌ مفارق ، ومن لم يُرد الله صلاحه تعبت فيه الأقوايل .
ما أهربك من الهوان ، وما أوقعك فيه ! تُهين نفسك وتُلقيها في مواطن الردى .
قال بعضهم : كُن مع الله كالطفل مع أمه ، كلما دفعته أمه ترامي عايها لا يعرف غيرها .
يا عبد الله ، تنتخب لنفسك الطيبات ، بل تنتخب لدابتك العلف ، وتعامل الله بالمجازفة!!. وربما قلبت عشرين بطيخة حتى تصلح لك واحدة لدهليز مرحاض ، وتقعد عند الأكل متربعا وربما طولت في الأكل ، وإذا جئت إلى الصلاة نقرتها نقر الديك ، والوساوس والخواطر الردئية تأتيك في صلاتك . مثال من هذه حاله كمن نصب
نفسه للهدف وقعد ، والرماح والسهام تقصده من كل جانب ، أفما هذا أحمق ؟!
ما مثالك إذا سمعت الحكمة ولم تعمل بها إلا كمثل الذي يلبس الدرع ولا يُقالتل : ألا فقد حُصل النداء على سلعتنا
فهل من مُشتر ؟!
قيمتك قيمة ما أنت مشغول به ، فإن اشتغلت بالدنيا فلا قيمة لك ، لأن الدنيا كالجيفة لا قيمة لها .
أفضل ما يطلب العبد من الله أن يكون مستقيما معه . قال الله تعالى :" اهدنا الصراط المستقيم " . فاطلب منه الهداية والإستقامة
وهو أن تكون مع الله في كل حال بالذي يرضاه لك ، وهو ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم عن الله سبحانه وتعالى .
من بذل لله صرف الود سقاه الله صرف الكرم .
مثال السالك كمن يحفر على الماء قليلا قليلا حتى يجد الماء بعد التعب .
ومثال المجذوب كمن أردا الماء فأمطرت له سحابة ، فأخذ منها ما يحتاج إليه من غير تعب .
إذا أعطيت نفسك كل ما تشتهي وتطلُبُ من الشهوات كنت كمن في بيته حية يُسمنها كل يوم حتى تقتله !
ولو جعل الله فيك الروح من غير نفس لأطعت وما عصيت ، ولو جعل فيك النفس من غير رُح لعصيت وما أطعت - فلذلك تتلون - ولكن جعل فيك القلب والروح والنفس والهوى
كالنحلة جعل فيها اللسع والعسل : فالعسل ببره ، واللسع بقهره ، فأراد الله أن يكسر دعوى النفس بوجود القلب ودعوى القلب بوجود النفس .
يا عبدالله ، طلب من أن تكون له عبدا فأبيت أن تكون إلا ضدا ، إقبالك على الله إفرادُك له بالعبادة فكيف يرضى لك أن تعبد غيره ؟! فلو أتيتنا تطلب العطاء منا ما أنصفتنا ، فكيف إذا أقبلت
على من سوانا .
وقفت الدنيا في طرق الآخرة ، فصرفت الوصول إليها ، ووقفت الآخرة في طرق الحق فمُنعت الوصول إليه .
إن من لُطف الله بك أن يكشف لك عن عيوب نفسك ويستُرها عن الناس .
إذا أُعطيت الدنيا ومُنعت الشُكر فيها فهي محنة في حقك . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قليل الدنيا يُلهي عن طرق الآخرة " .
كان لبعضهم زوجة فقالت له يوما : لا أقدر على أن تغيب عني ولا أن تشتغل بغيري ، فنودي : إذا كانت هذه لا خالقة ولا مُوجدة ، وهي تحب أن تجمع قلبك عليها ، فكيف لا أحب أنا أن تجمع قلبك علي ؟
كنت مرة عند الشيخ أبي العباس المرس رحمه الله فقلت : في نفسي أشياء ، فقال الشيخ : إن كانت النفس لك فاصنع بها ما شئت ، ولن تستطيع ذلك .
ثم قال : النفسً كالمرأة : كلما أكثرت خصامها أكثرت خصامك ، فسلمها إلى ربها يفعل بها ما يشاء ، فربما تعبت في تربيتها فلا تنقاد لك .
فالمسلم من أسلم نفسه إلى الله بدليل قوله تعالى :" إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ".
إذا أحبك مولاك أعرض عنك أصحابك حتى لا تشتغل بهم عنه ، وقطع علائقك من المخلوقين حتى ترجع إليه .
كم تطلب نفسك إلى الطاعة وهي تتقاعد ! إنما تحتلج إلى معالجة نفسك في الإبتداء ، فإذا ذاقت المنة جاءت اختيارا . فالحلاوة التي كانت تجدها في المعصية ترجعُ تجدها في الطاعة .
مثال الإيمان في القلب كالشجرة الخضراء ، فإذا كثرت عليها المعاصي يبست وفرغ إمدادها فمن أحب القيام بالواجبات فليترك المحرمات ، ومن ترك المكروهات أُعين على تحصيل الخيرات ، ومن ترك المباحات وسع عليه توسعة لا يسعها عقله ، وأباح له حضرته ،
ومن ترك استماع ما حُرم عليه أسمعه كلامه . ولكن ما أهون القُربة التي فيها هون نفسك عليك ، وما أثقل ما ليس فيه هوى ! مثاله أن تحج تنفلا ، فإن قيل لك : تصدق بذلك شق عليك ، لأن أمر الحج يُرى ، فللنفس فيه حظ والصدقة تُطوى وتُنسى .
وكذلك درسك العلم لغير الله ، فإنك تدرس الليل كله ونفسك طيبة بذلك ،فإذا قيل لك : صل بالليل ركعتيت شق ذلك عليك ، لأن الركعتين بينك وبين الله تعالى ، ليس فيهما للنفس حظ ، والقراءة والدرس للنفس فيهما حظ مشاركة للناس ، فلأجل ذلك خف عليهما .
قال بعضهم : تاقت نفسي إلى الزواج فرأيت المحراب قد انشق وخرج منه نعل من ذهب ، مكلل باللؤلؤ
فقيل لي: هذا نعلها فكيف وجهها ؟ فانقطعت شهوة النكاح من قلبي .
من هُيئت له المنازل لم يُرض له بالقعود على المزابل ، فاعمل الأعمال الصالحات بينك وبين الله سرا ولا تُطلع عليها أهلك ، واجعله مُدخرا عند الله تجده
يوم القيامة فإن النفس لها تمتع بذكر العمل . صام بعضهم أربعين سنة ولم يعلم به أهله .
لا تنفق أنفاسك في غير طاعة الله ، ولا تنظر إلى صغر النفس بل انظر إلى مقداره وإلى ما يعطي الله فيه للعبد فالأنفاس جواهر ، وهل رأيت ـحدا يرمي جوهرة على مزبلة ؟!
أفتصلح ظاهرك وتُفسد باطنك ؟! فمثالك كالمجذوم لبس ثيابا جديدة،ويخرج منه في الباطن القيح والصديد ، فأنت تُصلح ما ينظر إليه الناس ، ولا تُصلح قلبك الذي هو لربك !.
الحكمة كالقيد ، إن قيدت بها نفسك امتنعت ، وان رميتها تسيبت ،ويُخاف عليك . مثال ذلك كالمجنون في بيتك يُخربه ويُقطع الثياب ، فإذا قيدته استرحت منع وإذا طرحت القيد وخرجت فالضرر باق .
يا أيها الشيخ ، قد أفنيت عمرك فاستدرك ما فاتك ، قد لبست البياض وهو الشيب
والبياض لا يحمل الدنس .
مثال القلب كالمرآة ، ومثال النفس كالنفس كلما تنفست النفس على المرآة سودها .
قلب الفاجر كمرآة العجوز التي ضعفت همتها أن تجلوها وتنظر فيها ، وقلب العارف كمرآة العروس ، كل يوم تنظر فيها فلا تزال مصقولة .
همة الزاهدين في كثرة الأعمال ، وهمة العارفين في تصحيح الأحوال .
أربعة تُعينك على جلاء قلبك : كثرة الذكر ولزوم الصمت والخلوة وقلة المطعم والمشرب .
أهل الغفلة إذا أصبحوا يتفقدون أموالهم ، وأهل الزهد والعبادة يتفقدون أحوالهم ، وأهل المعرفة يتفقدون قلوبهم مع الله عز وجل .
ما من نفس يُبديه الله تعالى فيك من طاعة أو مرض أو فاقة إلا وهو يريد أن يختبرك بذلك ، ومن طلب الدنيا بطريق الآخرة كان كمن أخذ ملعقة ياقوت يغرف بها العذرة - الغائط - أفما يُعد هذا أحمق ؟!
لاتعتقد أن الناس فاتهم العلم ، بل فاتهم التوفيق أكثر من العلم .
أول ما ينبغي لك أن تبكي على عقلك ، فكما يقع القحط في الكلأ يقع في عقول الرجال . وبالعقل عاش الناس مع الناس ، ومع الله تعالى : مع الناس بحُسن الخُلق ، ومع الله باتباع مرضاته .
إن من الله عليك بثلاث فقد من عليك بالنعمة الكبرى :
الأولى الوقوف على حدوده ، والثانية الوفاء بعهوده ، والثالثة الغرق في شهوده - أن تلاحظ الحق سبحانه حتى كأنك تراه نُصب عينك - .
وما سبب استغرابك لأحوال العارفين إلا استغراقك في القطيعة ولو شاركتهم في الأسفار لشاركتهم في الأخبار ، ولو شاركتهم في العناء لشاركتهم في الهناء .
ما مثال نفسك وقت الرضا إلا كالبعير المعقول ، فإذا سيبته انطلق ، قال رسول الله " لقلب ابن آدم أشدُ تقلبا من القدر على النار إذا غلت .
فكم من كان في جمع مع الله أتته الفرقة في نفس واحد ، وكم من بات في طاعة الله ما طلعت عليه الشمس حتى دخل في القطيعة ، فالقلب بمثابة العين ، والعين لا يُرى بها كلها ، بل بمقدار العدسة منها
فكذلك القلب لا يراد منه اللحمانية ، بل اللطيفية التي أودعها الله فيه وهي المُدركة ، وجعل الله القلب معلقا في الجانب الأيسر كالدلو ، فإن هب غليه هوى الشهوة حركه ، وإن هب عليه خاطر التُقى حركه ، فتارة يغلب عليه خاطر الهوى ، وتارة يغلب عليه خاطر التقى ،
حتى يُعرفك مرة منه ومرة قهره . فمرة يُغلب عليه خاطر التقى ليمدحك ، ومرة يُغلب عليه خاطر الهوى ليذمك . فالقلب بمثابة السقف ، فإذا أُوقد في البيت نار صعد الدخان إلى السقف فسوده ، فكذلك دُخان الشهوة ، إذا نبت في البدن صعد دُخانه إلى القلب فسوده .
إذا ظلمك الغوي فارجع إلى القوي ، ولا تخف منه فيُسلط عليك .
مثال من يشهد الضرر من المخلوقين كمن ضرب الكلب بحجر ، فأقبل الكلب على الحجر يعضه ولا يعرف أن الحجر ليس بفاعل ، فيكون هو والكلب بسواء
( أي الإنسان الذي يشهد ويرى الضرر من المخلوقين لا من خالقهم ) .
ومثال من يشهد الإحسان من المخلوقين كالدابة إذا رأت سايسها بصبصت - حركت ذيلها -ويدنو إليها مالكها فلا تُلقي إليه بالا .
فإن كنت عاقلا فاشهد الأشياء من الله عز وجل ولا تشهدها من غيره .
ليس التائه من تاه في البرية ، بل التائه من تاه عن سبيل الهدى .
تطلب العز من الناس ، ولا تطلبه من الله ، فمن طلبه من الناس فقد أخطأ الطريق ، ومن أخطأ الطريق لم يزده سيره إلا بعدا فهذا هو التائه حقا .
إذا قلت : لا إله إلا الله ، طالبك الله بها وبحقها وهو ألا تنسب الأشياء إليه .
مثال القلب إذا أسلمته إلى النفس كمن تعلق بغريق فغرق كل واحد منهما ، ومثال النفس إذا أسلمتها للقلب كمن أسلم نفسه إلى عوام قوي فسلمها ، فلا تكن كمن أسلم قلبه إلى نفسه ! هل رأيت بصيرا قلد نفسه إلى أعمى يقوده ؟!
إن أمكنك أن تُصبح وتُمسي وما ظلمت أحدا من العباد فأنت سعيد ، فإن لم تظلم نفسك فيما بينك وبين الله ، فقد تكملت لك السعادة ، فأغلق عينيك وسُد أذنيك وإياك إياك وظُلم العباد .
ما مثالك في صغر عقلك وكونك لا تعلم ما عليك من الملابس إلا كالمولود تكسوه أمه أحسن الملابس وأفخرها ، وهو لا يشعر وربما دنسها ونجسها فتسرع إليه أمه وتكسوه أخرى ، لئلا يراه الناس كذلك وتغسل ما تنجس وهو لا يعلم ما فُعل به لصغر عقله .
عن الشيخ أبي الحسن الشاذلي رحمه الله أنه قال : قسل لي : يا علي ، طهر ثيابك من الدنس تحظ بمدد الله في كل نفس .
فقلت : وما ثيابي ؟ فقيل لي : إن الله كساك حُلة المعرفة ثم حلة التوحيد ثم حلة المحبة ، ثم حلة الإيمان ثم حلة الإسلام، فمن عرف الله صغر لديه كل شيء ومن أحب الله هان عليه كل شيء ، ومن وحد الله لم
يُشرك به شيئا ، ومن آمن بالله أمن من كل شيء ، ومن أسلم لله قلما يعصيه ، وإن عصاه اعتذر إليه ، وإن أعتذر إليه قبل عذره . قال ففهمت ذلك من قوله تعالى " وثيابك فطهر ".
يا من عاش وما عاش ، تخرج من الدنيا وما ذُقت ألذ شيء فيها وهي مناجاة الحق سبحانه ومخاطبته لك ، فأنت مُلقى جيفة بالليل ، فإن دُفعت عنه فاستغث بالله ، وقل : يا ملائكة الله ويا رسول ربي ، فاتتني الغنيمة التي نالوها من لذة المناجاة ووداد المصُفاة .
إذا كان العبد مُعجبا بطاعته ، متكبرا على خلقه ، ممتلئا عظمة يطلب من الخلق أن يوفوا حقوقه ، ولا يوفي حقوقهم ، فهذا يخشى عليه سوء الخاتمة ، والعياذ بالله !.
وإن كان إذا فعل معصية تراه باكيا حزينا ، منكسرا ذليلا ، يتطارح على أرجل الصالحين ويزورهم معترفا بالتقصير ، فهذا يُرجى له حسن الخاتمة .
إذا طلبت قارئا وجدت مالا يُحصى ، وإذا طلبت طبيبا وجدت كثيرا وإذا طلبت فقيها وجدت مثل ذلك ، وإن طلبت من يدُلك على الله ويُعرفك بعيوب نفسك لم تجد إلا قليلا ، فإن ظفرت به فأمسكه بكلتا بديك .
إن أردت أن تُنصر فكن كلك ذلة ، قال الله تعالى :" ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة ". إن أردت أن تُعطى فكن كلك فقرا :" إنما الصدقات للفقراء والمساكين ".
تكون في وسط النهر وأنت عطشان ، تكون معه في الحضرة وأنت تطلب الإتصال ، كأن العباد لم يتواصلوا إلى الآخرة إلا بكثرة المآكل والمشارب ، أو قيل لهم : هذه توصلكم إلى الآخرة ؟!. ولكن ما أرخص نفسك عليك ! لولا هوانها عليك ما عرضتها لعذاب الله تعالى ، وما أغلاها في طلب الدنيا وجمعها !
والعجب كل العجب في من يسأل المنجم عن حاله ، ولا يسأل كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
إذا ضعفت عن العبادة فرقع عبادتك بالبكاء والتضرع .
وإذا قيل لك :من يُبكي عليه ؟ فقل : عبدٌ عُفي فأنفق عافيته في معصية الله !!
إذا نمت على تخليط رأيت التخليط في منامك ، بل ينبغي لك أن تنام على طهارة وتوبة ، فيفتح قلبك بنوره.
ولكن من كان في نهاره لاغيا ، كان في ليله عن الله ساهيا .
إذا رأيت وليا لله تعالى فلا يمنعك إجلاله من أن تقعد بين يديه متأدبا وتتبرك به .
يتبع
https://essalihine.yoo7.com/t113-topic#123
توبوا الى الله جميعاً
أيها العبد اطلب التوبة من الله في كل وقت فإن الله تعالى قد ندبك إليها ، قال تعالى " إن الله يُحب التوابين ويُحب المُتطهرين " وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني لأستغفر الله في اليوم سبعين مرة .
فإن أردت التوبة فينبغي لك ألا تخلو من التفكر طول عُمرك فتفكر فيما صنعت في نهارك فإن وجدت معصية فوبخ نفسك على ذلك واستغفر الله وتُب إليه ، فإنه لا مجلس مع الله أنفع لك من مجلس تُوبخ فيه نفسك . ولاتوبخها وأنت ضاحكٌ فرح ، بل وبخها وانت مُجدٌ صادق مُظهرٌ للعبوسة حزين القلب منكسر ذليل . فإن فعلت ذلك أبدلك الله بالحزن فرحا وبالذل عزا وبالظلمة نورا وبالحجاب كشفا .
وعن الشيخ مكين الدين الأسمر رحمه الله تعالى وكان من السبعة الأبدال قال : كنت في إبتداء أمري أخيط وأتقوت من ذلك وكنت أعد كلامي بالنهار فإذا جاء المساء حاسبت نفسي فأجد كلامي قليلا فما وجدت فيه من خير حمدت الله وشكرتع ، وما وجدت فيه من غير ذلك تُبتُ إلى الله واستغفرته . إلى أن صار بدلا رضي الله عنه .
واعلم أنه إذا كان لك وكيل يحاسب نفسه ويحقاققها فأنت لا تحاسبه ، لمحاسبته نفسه ، وإن كان وكيلا غير محاقق لنفسه فأنت تحاسبه وتُحاققه وتُبالغ في محاسبته . فعلى هذا ينبغي أن يكون عملك كله لله تعالى ولا ترى أنك تفعل فعلا والله تعالى لا يحاسبك ولا يُحاققك .
وسوف نكمل لكم لاحقا إن شاء المولى تعالى تباعا.....
وإذا وقع من العبد ذنب وقع معه ظُلمة ، فمثال المعصية كالنار والظلمة دُخانها ، كمن اوقد في بيت سبعين سنة ، ألا ترى أنه يسود ؟ كذلك القلب يسود بالمعصية فلا يطهر إلا بالتوبة إلى الله ، فصار الذل والظلمة والحجاب
مقارنا للمعصية ، فإذا تبت إلى الله زالت آثار الذنوب .
ولا يدخل عليك الإهمال إلا بإهمالك عن متابعة النبي صلى الله عليه وسلم ولا تُحصل لك الرفعة عند الله تعالى إلا بمتابعة النبي صلى الله عليه وسلم والمتابعة له عليه الصلاة والسلام على قسمين :
جلية
خفية
فالجلية : كالصلاة والصيام والزكاة والحج والجهاد وغير ذلك .
والخفية : أن تعتقد الجمع - الرؤية الحق وحد سبحانه - في صلاتك والتدبر في قراءتك ، فإذا فعلت الطاعة كالصلاة والقراءة ولم تجد فيها جمعا ولا تدبرا فاعلم أن بك مرضا باطنا من كبر أو عُجب أو غير ذلك ، قال تعالى " سأصر عن ءايتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق " فيكون مثالك كالمحموم الذي يجد في فمه السُكر مُرا . فالمعصية مع الذل والإفتقار خير من الطاعة مع العز والإستكبار .
قال الله تعالى حكاية عن ابراهيم الخليل " فمن تبعني فإنه مني " فمفهوم هذا أن من لم يتبعه ليس منه وقال تعالى حكاية عن نوح " إن ابني من أهلي " فأجابه سبحانه وتعالى " قال يا نوح إنه ليس من اهلك إنه عمل خير صالح " فالمتابعة تجعل التابع كأنه جزء من المتبوع وإن كان أجنبيا كسلمان الفارسي رضى الله عنه لقوله رسول الله : سلمان منا أهل البيت . ومعلوم أن سلمان من أهل فارس ولكن بالمتابعة قال عنه رسول الله تعليما فكما أن المتابعة تُثبت الإتصال كذلك عدمها يُثبت الإتصال .
وقد جمع الله الخير كله في بيت وجعل مفتاحه متابعة النبي صلى الله عليه وسلم ، فتابعه بالقناعة بما رزقك الله تعالى ، والزهد والتقلل من الدنيا وترك ما لا يعني من قول وفعل ، فمن
فُتح له باب المتابعة فذلك دليلٌ على محبة الله له . قال تعالى " قُل إن كنتم تُحبون الله فاتبعوني يُحببكم اللهُ ويغفر لكم ذُنُوبكم واللهُ غفورٌ رحيم "
فإذا طلبت الخير كله فقل : اللهم إني أسألك المتابعة لرسولك صلى الله عليه وسلم في الأقوال والأفعال . ومن أردا ذلك فعليه بعدم الظلم لعباد الله في أعراضهم وأنسابهم فلو سلموا من ظلم بعضهم بعضا لانطلقوا إلى الله ولكنهم معوقون كالميدان - من أثقلته الديون - المعوق بسبب من يطلبه.
واعلم أنك لو كنت مُخصصا عند الملك مقربا منه وجاء يطلبك بدين ، ضيق عليك ولو كان نزرا يسيرا ، فكيف بك إذا جئت يوم القيامة ومئةُ ألف إنسان أو أكثر يطلبونك بديون مختلفة من أخذ مال ، وقذف عرض ، وغير ذلك فكيف يكون حالك ؟!
المُصابُ حقا من محقته - ذهبت به ومحته - الذنوب والشهوات حتى جعلته كالشن البالي ، هذا المنكوب المعزى ، ذهبت مآكله وشهواته ملأ بها المرحاض وأرضى بها زوجته ، ويا ليتها كانت من حلال !
من ظفر بالتوبة ظفر بحب الله
فالأول من المقامات : التوبة ، ولا يقُبل ما بعدها إلا بها .مثال العبد إذا فعل معصية كالقدر الجديد يُوقد تحتها النار ساعة فتسود ، فإن بادرت إلى غسلها انغسلت من ذلك السواد ، وإن تركتها وطبخت فيها مرة بعد مرة ثبت السواد فيها حتى تتكسر ، ولا يُفيد غسلها شيئا . فالتوبة هي التي تغسل سواد القلب فتبرزُ الأعمال وعليها رائحة القبول ، فاطلب من الله تعالى التوبة دائما فإن ظفرت بها
فقد طاب وقتك ، لأنها موهبة من الله تعالى يضعها حيث شاء من عباده ، وقد يظفر بها العبد المشقق الأكعاب دون سيده ، وقد تظفر بها المرأة دون زوجها ، والشاب دون الشيخ ، فإن ظفرت بها فقد أحبك الله لقوله تعالى " إن الله يُحبُ التوابين ويُحبُ المُتطهرين " إنما يغتبط بالشيء من يعرف قدره ولو بدرت الياقوت بين الدواب لكان الشعير أحب إليهم ، فانظر من أي الفريقين أنت ؟
فإن تبت فأنت من المحبوبين ، وإن لم تتب فأنت من الظالمين ، قال تعالى :" ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون " .
ومن تاب ظفر ، ومن لم يتب خسر . ولا تقطع يأسك وتقول : كم أتوب وأنقض ، فالمريض يرجو الحياة ما دامت فيه الروح .
وإذا تاب العبد فرحت به داره من الجنة ، وتفرح السماء والأرض ورسول الله ، فالحق سبحانه لم يرض أن تكون مُحبا بل محبوبا ، وأين المحبوب من المحب ؟!!
أف لعبد يعلم إحسان المحسن فيجترىء على معصيته ، ولكن ما عرف إحسانه من آثر عصيانه ، وما عرف قدره من لم يراقبه ، وما ربح من اشتغل بغيره وعلم أن النفس تدعوه
إلى الهلكة فتبعها ، وعلم أن القلب يدعوه إلى الرُشد فعصاه ، وعلم قدر المعصي فواجهه بالمعصية - ولو علم اتصافه بعظمته لما قابله بوجود معصيته - وعلم قُرب مولاه وأنه يراه فسارع لما عنه نهاه وعلم أثر الذنب المرتب عليه دنيا وأخرى ، وغيبا وشهادة فما استحيى من ربه ، ولو علم أنه في قبضته لما قابله بمخالفته
الاثار الظاهرة و الباطنة للمعصية
واعلم ان المعصية تتضمن : نقض العهد ، وتحليل عقد الوُد ، والإيثار على المولى والطاعة للهوى وخلع جلباب الحياء والمبارزة لله بما لا يضى ، مع ما في ذلك من الآثار الظاهرة من ظهور الكدورة في الأعضاء والجمود في العين والكسل في الخدمة وترك الحفظ للحُرمة وظهور كسب الشهوات وذهاب بهجة الطاعات .
وأما الآثار الباطنة : فكالقساوة في القلب ، ومعاندة النفس وضيق الصدر بالشهوات وفُقدان حلاوة الطاعات وترادف الأغيار المانعة من بروق شوارق الأنوار ، واستيلاء دولة الهوى إلى غير ذلك من ترادف الارتياب ونسيان المآب وطول الحساب .
ولو لم يكن في المعصية إلا تبدل الإسم لكان ذلك كافيا فإنك إذا كنت طائعا تسمى بالمحسن المقبل وإذا كنت عاصيا انتقل أسمُك إلى المُسمى المُعرض . هذا في انتقال الاسم فكيف بانقال الأثر من تبدل حلاوة الطاعة بحلاوة المعصية ولذاذة الخدمة بلذاذة الشهوة ؟!
هذا في تبدل الأثر فكيف بتبدل الوصف ؟ بعد أن كنت موصوفا عند الله بمحاسن الصفات ينعكس الأمر فتتصف بتبدل المرتبة ؟ فبعد أن كنت عند الله من الصالحين صرت عنده من المفسدين وبعد أن كنت عند الله من المتقين صرت عنده من الخائنين .
فإن كانت الذنوب منفتحة في وجهك فاستغث بالله والجأ إليه واحثُ التراب على رأسك وقُل : اللهم انقلني من ذُل المعصية إلى عز الطاعة . وزُر ضرائح الأولياء والصالحين وقل يا أرحم الراحمين .
أتريد أن تجاهد نفسك وأنت تُقويها بالشهوات حتى تغلبك ؟! ألا فقد جهلت! فالقلب شجرة تُسقى بماء الطاعة ، وثمراتها مواجيدها :
فالعين ثمرتها الاعتبار
الأُذُنُ ثمرتها الإستماع للقرآن
اللسان ثمرته الذكر
اليدان والرجلان ثمرتهما السعي في الخيرات
فإذا جف القلب سقطت ثمراته فإن أجدب فأكثر من الأذكار، ولا تكن كالعليل يقول : لا أتداوى حتى أجد الشفاء ، فيقال له : لا تجد الشفاء حتى تتداوى ، فالجهاد ليس معه حلاوة وما معه إلا رؤوس الأسنة ، فجاهد نفسك ، هذا هو الجهاد الأكبر واعلم ان الثكلى لا عيد لها ، بل العيد لمن قهر نفسه ، لا عيد إلا لمن جمع شمله .
جاز بعضهك على دير راهب فقال له : يا راهب ، متى عيد هؤلاء القوم ؟ قال : يوم يغفرُ الله لهم .
ما مثالك مع نفسك إلا كمن وجد زوجته في حاة خمار ، فأتاها بالملابس الحسنة والمآكل الطيبة ، وإذا تركت الصلاة أصبح يُطعمها الهرائس والألوان .
بقى بعضهم أربعين سنة لا يحضر الجماعة لما يشمُ من نتن قلوب الغافلين ، فما أعرفك بمصالح الدنيا ، وما أجهلك بمصالح آخرتك !
مثال الدنيا عندك كمن خرج إلى الضيعة ، واجتهد فخزن الأقوات ، فأنت قد أتيت بما يعود نفعه عليك في وقته ، وإن خزنت حيات الشهوات وعقارب المعصية هلكت . كفى بك جهلا أن الناس يخزنون الأقوات لوقت حاجتهم إليها ، وأنت تخزنُ ما يضرك وهي المعاصي ! هل رأيت من يأتي بحيات فيربيها في داره ؟ فها أنت تفعل ذلك .
وأضرُ ما يُخاف عليك محقرات الذنوب ، لأن الكبائر ربما استعظمتها فتُبت منها ، واستحقرت الصغائر فلم تتب منها . فمثالك كمن وجد أسدا فخلصه الله منه ، فوجد بعده خمسين ذئبا فغلبوه . قال الله تعالى " وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم " والكبيرة حقيرة في كرم الله ، وإذا السُم يقتل مع صغره . والصغيرة كالشرارة من النار ، والشرارة قد تحرق بلدة .
من أنفق عافيته وصحته في معصية الله ، فمثاله كمن خلف له أبوه ألف دينار ، فاشترى بها حيات وعقارب وجعلها حوله ، تلدغه هذه مرة وتلسعه هذه أخرى ، أفما تقتله ؟! وأنت تمحق الساعات في مخالفته ، فما مثالك إلا كالحدأة تطوف على الجيفة ، حيثما وجدتها انحطت عليها ، فكن كالنحلة ، صغيرٌ جرمُها ، عظيمة همتها ، تجني طيبا وتضع طيبا .
طلما تمرغت في مواطن المحت ، فتمرغ في محاب الله عز وجل ، فهذه الحقيقة تُبين طريقك ولكن من أماتته الغفلة لم ترُده النكبات
لأن المرأة الناقصة العقل يموت ولدها وهي تضحك ، فكذلك أنت تنكب عن قيام الليل وعن صيام النهار وفي جميع جوارحك ولا تتألم!!
وما ذلك إلا لأن الغفلة قد أماتت قلبك ، لأن الحيَ يؤلمه نقرُ الإبرة ، ولو قُطع الميتُ بالسيوف لم يتألم ،فأنت حينئذ ميتُ القلب ، فاجلس مجلس الحكمة ففيه نفحةٌ من نفحات الجنة
تجدها في طريقك وفي دارك وفي بيتك ، فلا يفُتك المجلس ولو كنت على معصية ولا تقل: ما الفائدة في حضور المجلس وأنا أعصي ولا أقدر على ترك المعصية ؟ بل على الرامي أن يرمي ، فإن لم يأخذ اليوم يأخذ غدا .
اعلم يا هذا: إياك والمعصية فقد تكون سببا لتوقف الرزق فاطلب من الله التوبة
فإن قُبلت وإلا فاستغث بالله وقل :" ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسؤين " ولا تكن كمن أتى عليه أربعون سنة ولم يقرع باب الله قط .
وأكثر ما يخاف عليك سوء الخاتمة والعياذ بالله تعالى ، بسبب إطفاء جمرة الإيمان بسواد العصيان وهي الذنب حتى يسود القلب من غير توبة .
إياك أن تتهاون في أعمالك وتختار الطيبات لمرحاضك ! واحذر نفسك التي بين جنبيك فهي التي تحطب عليك ثم لا تُفارق صاحبها إلى الممات والشيطان يفارق في رمضان لأنه تُغل فيه الشياطين وربما تجد من يقتل فيه ويسرق
فهذا من النفس . فإذا مالت إلى المعصية فذكرها بعذاب الله والقطيعة عن الله بسببه ، والعسل المسموم يُترك من العلم بحلاوته ، لما فيه من وجود الأذى لقوله صلى الله عليه وسلم : الدنيا حلوة خضرة . ويروى أيضا : جيفة قذرة .
حلوة خضرة عند أهل الغفلة وجيفة قذرة عند العقلاء ، حلوة خضرة عند النفوس ، وجيفة قذرة عند مرايا القلوب ، حلوة خضرة للتحذير ، وجيفة قذرة للتنفير ، فلا تخدعنكم بحلاوتها فإن عاقبتها مُرة .
إذا قيل لك : من المؤمن ؟ فقل : الذي اطلع على عيب نفسه ولم ينسب أحدا من العباد إلى عيب ، وإذا قيل لك : من المخذول ؟ فقل : الذي يَنسُبُ العباد إلى العيب ويُبريء نفسه منه .
ومما تمادى عليه أهل الزمان : مُباسطتهم ومؤانستهم للعاصين ولو أنهم عبسوا في وجوههم لكان ذلك زجرا لهم عن المعصية .
لو فُتح لك باب الكمال لما رجعت إلى الرذائل ، أرأيت من فُتح له باب القصور هل يرجع إلى المزابل ؟! ولو فتح لك باب الأُنس بينك وبينه ما طلبت من تأنس به . لو أختارك لربوبيته ما قطعك عنه .
لو كرمت عليه ما رماك لغيره .
وإذا عزل عنك محبة مخلوق فافرح فهذا من عنايته بك ، ولا تكون معصية إلا والذل معها ، أفتعصيه ويُعزك ؟! كلا ! فقد ربط العز مع الطاعة ، والذل مع المعصية فصارت طاعته نورا وعزا وكشف حجاب ، وضدها معصيةٌ وظُلمة وذل وحجاب بينك وبينه ، ولكن
ما منعك من الشُهود إلا عدم وقوفك مع الحدود ، واشتغالك بهذا الوجود .
إذا عصى ولدك فأدبه بالشرع ، ولا تقطعه ، بل قابله بالعُبوسة ليكف عن المعصية . وأكثر ما يدخل على المؤمن الدخل - العيب والريبة - إذا كان عاصيا ، فإما أن يفضحوه وإما أن يستهزئوا به ، فإذا فعلوع ذلك فقد أخطؤوا الطريق .
إذا عصى المؤمن فقد وقع في ورطة عظيمة ، وطريقه أن تفعل معه كما فعلت مع ولدك إذا عصى ، تُعرض عنه في الظاهر وتكون راحما له في الباطن ، وتطلب له الدعاء بالغيب .
كفى بك جهلا أن تحسد أهل الدنيا على ما أعطُوا ، وتشغل قلبك بما عندهم ، فتكون أجهل منهم ، لأنهم اشتغلوا بما أعطوا واشتغلت أنت بما لم تُعط .
ترمد عينك فتعالجها ، وما سبب ذلك إلا أنك ذُقت بها لذة الدنيا ، فتعالجها حتى لا يفوتك النظر إلى مستحسناتها ، وترمد بصيرتك أربعين سنة فلا تعالجها ؟!
واعلم أن عُمرا ضُيع أوله حريٌ أن يُحفظ آخره . كامرأة كان لها عشرة أولاد مات منهم تسعة وبقى واحد ، أليست تردُ وجدها على ذلك الواحد ؟! وأنت قد ضيعت أكثر عُمرك فاحفظ بقيته ، وهي صُبابة يسيرة .
والله ما عُمرك من اول وُلدت بل عُمرك من اول يوم عرفت الله تعالى .
شتان بين أهل السعادة وأهل الشقاوة : فأهل السعادة إذا رأوا إنسانا على معصية الله أنكروا عليه الظاهر ، ودعوا له في الباطن . وأهل الشقاوة يُنكرون عليه تشفيا فيه ، وربما ثلبوا عليه عرضه ، فالمؤمن من كان ناصحا لأخيه في الخلوة ، ساترا له في الجلوة . وأهل الشقاوة بالعكس : إذا رأوا إنسانا على معصية أغلقوا عليه الباب وفضحوه فيها ، فهؤلاء لا تُنور بصائرهم ، وهم عند الله مبعدون .
إذا أردت أن تختبر عقل الرجل فانظر إليه إذا ذكرت له شخصا : فإن وجدته يطوف على محمل سوء حتى يقول لك: خلنا منه ذاك فعل كذا وكذا ! فاعلم أن باطنه خراب وليس فيه معرفة ، وإذا رأيته يذكره بخير ، أو يذكر له ما يوصف بالذم ويحمله على محمل حسن ويقول : لعله سها أو له عذر أو ما أشبه ذلك فأعلم أن باطنه معمور فإن المؤمن يعمل على سلامة عرض أخيه المسلم .
من علم قرب رحيله اسرع في تحصيل الزاد
من قارب فراغ عُمره ويريد أن يستدرك ما فاته ، فليذكر بالأذكار الجامعة ، فإنه إذا فعل ذلك صار العمر القصير طويلا كقوله : سبحان الله العظيم وبحمده
عدد خلقه ورضا نفسه ومداد كلماته . وكذلك من فاته الصيام والقيام ، أن يشغل نفسه بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنك لو فعلت في جميع عمرك كا طاعة ثم صلى الله عليك صلاة واحدة
رجحت الصلاة الواحدة ما عملته في عمرك كله جميع الطاعات لأنك تصلي على قدر وُسعك وهو يُصلي على حسب ربوبيته . هذا إذا كانت صلاة واحدة ، فكيف إذا صلى عليك عشرا بكل صلاة ؟! كما جاء بالحديث الصحيح .
فما أحسن العيش إذا أطعت الله فيه بذكر الله تعالى أو الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم .
يُروى أنه ما من صيد يُصاد ، ولا شجرة تُقطع إلا بغفلتها عن ذكر الله تعالى ، لأن السارق لا يسرق بيتا وأهله أيقاظ بل على غفلة أو النوم .
من علم قُرب رحيله أسرع في تحصيل الزاد ، ومن علم أن إحسان غيره لا ينفعه جد في الإحسان ، ومن أخرج ولم يحسب خسر ولم يدر ، ومن وكل وكيلا واطلع على خيانته عزله . كذلك نفسك قد اطلعت على خيانتها فاعزلها زضيق عليها المسالك .
إذا رأيت فيك الإعراض والشهوة والغفلة فهذا وصفك ، وإذا رأيت فيك الإنابة والخشية والزهد فهذا من صنائع الله .
مثال ذلك : إذا رأيت ببلادك الحلفاء - نبت مائي - والشوك والعوسج فهذا نبات أرض بلدك ، وإذا رأيت بها العود الرطب والمسك والعنبر فاعلم أنه مجلوب من صنائع الله ليس من نبات أرضك : فالمسك من غزلان عراقها ، والعنبر من بحر هندها .
مثال الإيمان معك إذا عصيت الله تعالى كالشمس المكسوفة ، أو كالسراج إذا غطيته بصحفة ، هو موجود ولكن منع نوره الغطاء .
ثم إنك تحضر المجلس في الجامع ليتوفر عقلك ، وإن كان عمرك قليلا فيصير كثيرا بحصول الإيمان والخشوع والخضوع ، والخشية والتدبر والتذكر ونحوها . فلو عرفت الإيمان ما قاربت العصيان ، فلا غريم أمطلُ من النفس ولا عدو أعظم من الشيطان ولا معارض أقوى من الهوى .
ولا يدفع المدد الهابط مثلُ الكبر ، لأن الغيث لا يقرُ إلا على تلأرض المنخفضة لا فوق رؤوس الجبال ، فكذلك قلوب المتكبرين تنتقل عنها الرحمة وتنزل إلى قلوب المتواضعين . والمراد بالمتكبرين : من يردُ الحق ، لا من يكون ثوبه حسنا ، ولكن الكبر بطر الحق ، أي دفعه واحتقار الناس .
ولا تعتقد أن الكبر لا يكون إلا في وزير أو صاحب دنيا ، بل قد يكون فيمن لا يمكلك عشاء ليلة ، وهو يُفسد ولا يُصلح لأنه تكبر على حق الله تعالى .
ولا تعتقدأن المنكوب من كان في الأسر أو في السجن بل المنكوب من عصى الله وأدخل في هذه المملكة الطاهرة نجاسة المعصية .
كثيرٌ من أنفق الدنانير والدراهم ولكن من أنفق الدمع قليل .
الأحمق من مات ولده وجعل يبكي عليه ولا يبكي على ما فاته من الله عز وجل ، فكأنه يقول بلسان حاله : أنا أبكي على ما كان يشغلني عن ربي ، بل كان ينبغي له الفرح بذلك ، ويقبل على مولاه لأنه أخذ نته ما كان يشغله عنه .
وقبيحٌ بك أن تشيب وأنت طفلُ العقل ، صغيره ، ولا تفهم مراد الله منك ! فإن كنت عاقلا فابك على نفسك قبل أن يُبكى عليك ، فإن الولد والزوجة والخادم والصديق لا يبكون عليك إذا مُت ، بل يبكون على ما فاتهم منك ، فسابقهم أنت بالبكاء وقل : يحقُ لي أن أبكي على فوات حظي من ربي قبل أن تبكوا علي.
كفى بك جهلا أن يعاملك مولاك بالوفاء ، وأنت تعامله بالجفاء .
ليس الرجل من صاح بين الناس في المجالس ، إنما الرجل من صاح على نفسه وردها إلى الله تعالى .
من عال - حمل - هم الدنيا وترك هم الآخرة كان كمن جاءه أسد يفترسه ثم قرصه برغوث ، فاشتغل به عن الأسد ، فإن من غفل عن الله اشتغل بالحقير ، ومن لم يغفل عنه لم يشتغل إلا به . فأحسنُ أحوالك
أن تفوتك الدنيا لتحصيل الآخرة .
يا طالما فاتتك الآخرة لتحصيل الدنيا !. ما أقبح الخوف بالجندي ، وما أقبح اللحن بالنحوي ! وما أقبح طلب الدنيا لمن يُظهر الزهد فيها .
ليس الرجل من يُربيك لفظه ، إنما الرجل من يُربيك لحظه .
عن الشيخ أب العباس المرسي رضي الله عنه أنه قال : إذا كانت السلحفاة تُربي أفراخها بالنظر كذلك الشيخ يربي مريده بالنظر ، لأن السلحفاة تبيض في البر ، وتتوجه إلى جانب النهر ، وتنظر إلى بيضها ، فيربيهم الله لها بنظرها إليهم .
إياك أن تخرج من هذه الدار وما ذُقت حلاوة حبه . ليس حلاوة حبه في المآكل والمشارب ، لأنه يشاركك فيها الكافر والدابة ، بل شارك الملائكة في حلاوة الذكر ، والجمع على الله تعالى ، لأن الأرواح لا تحتمل رشاش النفوس ، فإذا انغمست في جيفة الدنيا
لا تصلح للمحاضرة ، لأن حضرة الله تعالى لا يدخلها المتلطخون بنجاسة المعصية . فطهر قلبك من العيب يفتح لك باب الغيب ، وتُب إلى الله وارجع إليه بالإنابة والذكر ومن أدام قرع الباب يُفتح له ، ولولا الملاطفة ما قُلنا لك ذلك ، لأنه كما قالت رابعة العدوية رضي الله عنها :
ومتى أُغلق هذا الباب حتى يُفتح ؟!.
ولكن هذا باب يوصلك إلى قربه . وإياك وذهول القلب عن وحدانية الله تعالى ،فإن أول درجات الذاكرين استحضار وحدانيته تعالى .وما ذكره الذاكرون ، وفُتح عليهم إلا باستحضار ذلك ، وما طردوا إلا بذكرهم مغلبة الذهول عليهم . وتستعين على ذلك بقمع الشهوتين : البطن والفرج.
ولا يُضادك في الله إلا نفسك .
ما أكثر توددك للخلق ، زما أقل توددك للحق !
لو فُتح لك باب التودد مع الله لرأبت العجائب : ركعتان في جوف الليل : تودد. الصدقة على المساكين : تودد. عيادتك للمرضى : تودد . صلاتُك على الجنائز تودد
إعانتك لأخيك المسلم : تودد.
إماطتك الأذى عن الطرق : تودد .
ولكن السيف المطروح يحتاج إلى ساعد ، ولا عبادة أنفع لك من الذكر ، لأنه يُمكن الشيخ الكبير والمريض الذي لا يستطيع القيام والركوع والسجود .
واعلم أن العلماء والحكماء يُعرفونك كيف تذخل إلى الله تعالى .
هل رأيت مملوكا أول ما يُشترى يصلح للخدمة ؟ بل يُعطى لمن يُربيه ويُعلمه الأدب ، فإن صلح وعرف الأدب قدمه للملك . كذلك الأولياء يصحبهم المُريدون حتى يُزجوا بهم إلى الحضرة ، كالعوام إذا أراد أن يعلم الصبي العوم يُحاذيه إلى أن يصلح
للعوم وحده ، فإذا صلح زجه في اللجة وتركه .
وإياك أن تعتقد أن لا يُنتفع بالأنبياء والأولياء والصالحين ، فإنهم وسيلة جعلها الله إليه لأن كل كرامة للولي هي شهادة بصدق النبي عليه الصلاة والسلام لأنها جرت على أيدي الأولياء مثل خرق العادات .
عن الشيخ أبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه أنه قال : كل نفسك وزنها بالصلاة ، فإن انتعت عن الحظوظ فاعلم أنك سعدت ، وإلا فابك على نفسك إذا جررت رجلك إلى الصلاة جرا ، فهل رأيت حبيبا لا يريد لقاء حبيبه؟ فمن أراد أن يعرف حقيقته عند الله ، وينظر حاله مع الله ، فلينظر إلى صلاته :إما بالسكون والخشوع
أو بالغفلة والعجلة ، فإن لم تكن بالوصفين الأولين فاحث التراب على رأسك ، فإن من اجالس صاحب المسك عبق عليه من ريحته ، فإن الصلاة مجالسة الله تعالى ، فإذا جالسته ولم يحصل لك منه شيء دل ذلك على مرض في قلبك وهو إما كبر ، أو عجب أو عدم أدب .
قال الله تعالى " سأصرف عن ءاياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق " فلا ينبغي لمن صلى أن يُسرع الخروج بل يذكر الله تعالى ويستغفره من تقصيره فيها ، فرب صلاة لا تصلح للقبول فإن استغفرت الله بعدها قُبلت .
كان النبي عليع الصلاة والسلام إذا صلى استغفر الله ثلاث مرات .
كم فيك من الكوامن فإذا أوردت عليها الواردات أظهرتها ، وأعظمها ذنبا : الشك في الله ، والشك في الرزق شك في الرازق .
الدنيا أحقر من أن يُعال همها . صغرت الهمم فعالت صغيرا ، فلو كنت كبيرا لعلت الكبير . من عال الهمم الصغير وترك الهم الكبير استقللنا عقله .
قُم أنت بما يلزمك من وظائف العبودية ، وهو يقوم بما التزمه . أيرزقُ الجُعل والوزغ وبنات وردان - حشرات - وينسى أن يرزقك ؟! قال الله تعالى" وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسئلك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى " .
كلُ من كان مراعيا لحق الله تعالى، لا يُحدثُ الله حدثا في المملكة إلا أعلمه . نظر بعضهم إلى بعض جماعة فقال لهم : هل فيكم من إذا أحدث الله سبحانه وتعالى في المملكة حدثا أعلمه ؟ قالوا : لا . فقال لهم : ابكوا على أنفسكم .
كان المتقدمون من السلف رضي الله عنهم يسألون الشخص عن حاله ليستثيروا منه الشكر ، والناس اليوم ينبغي ألا يسألوا فإنك إن سألت تستثير منهم الشكوى .
عن بعض النباشين أنه تاب إلى الله تعالى ، فقال يوما لشيخه : يا سيدي نبشت ألف قبر ، فوجدت وجوههم مُحولة عن القبلة! فقال له الشيخ : يا ولدي ، ذلك من شكهم في رزقهم .
يا عبدالله ، إذا طلبت من الله فاطلب منه أن يُصلحك من كل الوجوه ، وأن يُصلحك بالرضى عنه في تدبيره لك .
ثم إنك عبد شرود طلب منك أن تعتبر إليه ففرت منه ، فإن الفرار بالأفعال والأحوال والهمم . فإذا كنت في صلاتك تسهو وفي صومك تلغو وفي لُطف الله تشكو ، أفما أنت شارد ؟
عن الشيخ أبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه أنه قال: بقيت مرة في البادية
ثلاثة أيام لم يُفتح لي بشيء ، فجاز علي بعض النصارى فرأوني متكئا فقالوا : هذا قسيس من المسلمين ،
فوضعوا عند رأسي شيئا من الطعام وانصرفوا ، فقلت : يا للعجب ! كيف رزقت على أيدي الأعداء ، ولم أرزق على أيدي الأحباء ؟! فقيل : ليس الرجل
من يُرزق على أيدي الأحباء ، إنما الرجل من يُرزق من أيدي الأعداء .
يا هذا أجعل نفسك كدابتك ، كلما عدلت عن الطريق ضربتها فرجعت إلى الطريق ، ولو فعلت مع نفسك مثل ما تفعل بجُبتك كلما اتسخت غسلتها ، وكلما تقطع منها شيء رقعته
وجددته كانت لك السعادة . فرُب رجل ابيضت لحيته وما جلس مع الله جلسة يُحاسب فيها نفسه فإن الشيخ مكين الدين الأسمر رحمه الله يقول : كنت في البداءة أحايب نفسي عند المساء فأقول : تكلمت اليوم بكذا وكذا ، فأجد ثلاث كلمات
أو أربعا . وكان عنده يوما شيخ عمره نحو تسعين سنة ، فقال له: يا سيدي أشكو إليك كثرة الذنوب . فقال الشيخ : هذا شيء لا نعرفه وما أعرف أني عملت ذنبا قط .
كما أن للدنيا أبناء من استند إليهم كفوه ، فكذلك للآخرة أبناء من استند إليهم أغنوه . ولا تقل : طلبنا فلم نجد ، فلو طلبت بصدق لوجدت . وسبب عدم وجدانك عدم استعدادك ، فإن العروس لا تُجلى على فاجر ، فلو طلبت رؤية العروس لتركت الفجور ، ولو تركت الفجور لرأيت الأولياء
والأولياء كثيرون ، لا ينقص عددهم ، ولو نقص واحد منهم لنقص نور النبوة .
إذا أحببت حبيبا لن تصل إليه حتى تكن أهلا للوصول إليه ، وذلك حتى تطهر مما أنت فيه من الزلل.
قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رحمه الله : أولياء الله عرائس والعرائس لا يراها المجرمون ، إذا ثقلت عليك الطاعة والعبادة ، ولم تجد لها حلاوة في قلبك ، وتخف عليك المعصية ، وتجد لها حلاوة ، فاعلم أنك لم تصدق في توتبتك ، فإنه لو صح الأصل لصح الفرع.
وليتك أطعت مولاك كما يُطيعك عبدك ، فإنك تُحبه ناهضا في خدمتك دائما ، وأنت تُحب الطاعة وتطلب أن تفرغ منها مسرعا ، كأنك تنقر بالمتقير ، فياليت بصرا نظرت به محاسن غيره عُوضت عنه العمى .
كم حُصل لك الهوان بوقوفك على أبواب المخلوقين ! وكم أهانوك وأنت لا ترجع إلى مولاك !!
عن الشيخ مكين الدين الأسمر رحمه الله : رأيت في المنام حُورية وهي تقول: أنا لك وأنت لي . قال : فبقيت نحو شهرين أو ثلاثة أشهر لا أستطيع أن أسمع لمخلوق كلاما إلا تقيأت لأجل طيب كلامها .
كفاك من الإدبار أن تفتح عينيك في هذا الدار ، قال الله تعالى :" ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ".
قدر لك الصحة والمرض والغنى والفقر ، والفرح والحُزن ، حتى تعرفه بأوصافه .
من صحبك يوما أو يومين ، ولم ير منك نفعا تركك وصحب غيرك ، وأنت تصحب نفسك أربعين سنة ولم تر منها نفعا فقل لها ارجعي يا نفس إلى رضا ربك ! طالما وافقتك في شهواتك ، فتبدلي بعد البطالة بالإشغال بالله ، وبعد الكلام بالصمت ، وبعد الوقوف بالأبواب :
الجلوس بالخلوة ، وبعد الأنس بالمخلوقين : الأنس بالخالق وبعد قُرناء السوء : مُعاشرة أهل الخير والصلاح .
اجعل أحوالك على ضد ما كنت عليه :
اجعل بدل السهر في معصية الله : السهر في طاعة الله ، وبعد الإقبال على أهل الدنيا : الإعراض عنهم والإقبال على الله ، وبعد الإصغاء لكلامهم : الإصغاء والإستماع لكلام الله عز وجل وذكره ، وبعد الأكل بالشره والشهوة : الأكل القليل الذي يُعينك على الطاعة .
قال الله تعالى:" والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سُبلنا " .إنما عصى الله من لم يعرف ثوابه . فلو أطلعوا على عذاب الله لما غفلوا ، ولو اطلعوا على ما أعد الله لأهل الجنة لما تركوها طرفة عين
إذا صحبت أبناء الدنيا جذبوك إليها ، وإذا صحبت أبناء الآخرة جذبوك إلى الله .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " المرءُ على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل " . كما تختار لنفسك المآكل الطيبة التي لا ضرر فيها ، والزوجة الحسناء لتتزوجها
فكذلك ى تُوادد إلا من يُعرفك الطرق إلى الله سبحانه وتعالى ، واعلم أن لك ثلاثة أخلاء :
أحدهما : المال ، تفقده عند الموت .
والثاني : العيال ، يتركونك عند القبر .
والثالث : عملك ، لا يُفارقك أبدا .
فاصحب من يُدخل معك قبرك وتأنس به ، فالعاقل من عقل عن الله أوامره ونواهيه .
مثالك كالجُعل يعيش في الروث والعذرة ، وإذا قُرب إليه الورد مات من رائحته . فمن الناس من هو جُعلي الهمة ، فراشي العقل ، فإن الفراش لا يزال يرمي نفسه في النار حتى تُحرقه ، فكذلك أنت ترمي نفسك في نار المعصية عمدا
فلو أردت السير إلى الله تعالى شددت المحزم ، فأين الهمة ؟!!
إنما تأكل لتعيش ولا تعيش لتأكل ، فإن فعلت ذلك فمثالك على المداود كثير ومثلك في الدواب كثير ، فإن فعلت ذلك فإن أسبق الخيل ما ضُمر . تقول : هذه الليلة أُقلل الأكل فإذا حضر الطعام فكأنه حبيبٌ مفارق ، ومن لم يُرد الله صلاحه تعبت فيه الأقوايل .
ما أهربك من الهوان ، وما أوقعك فيه ! تُهين نفسك وتُلقيها في مواطن الردى .
قال بعضهم : كُن مع الله كالطفل مع أمه ، كلما دفعته أمه ترامي عايها لا يعرف غيرها .
يا عبد الله ، تنتخب لنفسك الطيبات ، بل تنتخب لدابتك العلف ، وتعامل الله بالمجازفة!!. وربما قلبت عشرين بطيخة حتى تصلح لك واحدة لدهليز مرحاض ، وتقعد عند الأكل متربعا وربما طولت في الأكل ، وإذا جئت إلى الصلاة نقرتها نقر الديك ، والوساوس والخواطر الردئية تأتيك في صلاتك . مثال من هذه حاله كمن نصب
نفسه للهدف وقعد ، والرماح والسهام تقصده من كل جانب ، أفما هذا أحمق ؟!
ما مثالك إذا سمعت الحكمة ولم تعمل بها إلا كمثل الذي يلبس الدرع ولا يُقالتل : ألا فقد حُصل النداء على سلعتنا
فهل من مُشتر ؟!
قيمتك قيمة ما أنت مشغول به ، فإن اشتغلت بالدنيا فلا قيمة لك ، لأن الدنيا كالجيفة لا قيمة لها .
أفضل ما يطلب العبد من الله أن يكون مستقيما معه . قال الله تعالى :" اهدنا الصراط المستقيم " . فاطلب منه الهداية والإستقامة
وهو أن تكون مع الله في كل حال بالذي يرضاه لك ، وهو ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم عن الله سبحانه وتعالى .
من بذل لله صرف الود سقاه الله صرف الكرم .
مثال السالك كمن يحفر على الماء قليلا قليلا حتى يجد الماء بعد التعب .
ومثال المجذوب كمن أردا الماء فأمطرت له سحابة ، فأخذ منها ما يحتاج إليه من غير تعب .
إذا أعطيت نفسك كل ما تشتهي وتطلُبُ من الشهوات كنت كمن في بيته حية يُسمنها كل يوم حتى تقتله !
ولو جعل الله فيك الروح من غير نفس لأطعت وما عصيت ، ولو جعل فيك النفس من غير رُح لعصيت وما أطعت - فلذلك تتلون - ولكن جعل فيك القلب والروح والنفس والهوى
كالنحلة جعل فيها اللسع والعسل : فالعسل ببره ، واللسع بقهره ، فأراد الله أن يكسر دعوى النفس بوجود القلب ودعوى القلب بوجود النفس .
يا عبدالله ، طلب من أن تكون له عبدا فأبيت أن تكون إلا ضدا ، إقبالك على الله إفرادُك له بالعبادة فكيف يرضى لك أن تعبد غيره ؟! فلو أتيتنا تطلب العطاء منا ما أنصفتنا ، فكيف إذا أقبلت
على من سوانا .
وقفت الدنيا في طرق الآخرة ، فصرفت الوصول إليها ، ووقفت الآخرة في طرق الحق فمُنعت الوصول إليه .
إن من لُطف الله بك أن يكشف لك عن عيوب نفسك ويستُرها عن الناس .
إذا أُعطيت الدنيا ومُنعت الشُكر فيها فهي محنة في حقك . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قليل الدنيا يُلهي عن طرق الآخرة " .
كان لبعضهم زوجة فقالت له يوما : لا أقدر على أن تغيب عني ولا أن تشتغل بغيري ، فنودي : إذا كانت هذه لا خالقة ولا مُوجدة ، وهي تحب أن تجمع قلبك عليها ، فكيف لا أحب أنا أن تجمع قلبك علي ؟
كنت مرة عند الشيخ أبي العباس المرس رحمه الله فقلت : في نفسي أشياء ، فقال الشيخ : إن كانت النفس لك فاصنع بها ما شئت ، ولن تستطيع ذلك .
ثم قال : النفسً كالمرأة : كلما أكثرت خصامها أكثرت خصامك ، فسلمها إلى ربها يفعل بها ما يشاء ، فربما تعبت في تربيتها فلا تنقاد لك .
فالمسلم من أسلم نفسه إلى الله بدليل قوله تعالى :" إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ".
إذا أحبك مولاك أعرض عنك أصحابك حتى لا تشتغل بهم عنه ، وقطع علائقك من المخلوقين حتى ترجع إليه .
كم تطلب نفسك إلى الطاعة وهي تتقاعد ! إنما تحتلج إلى معالجة نفسك في الإبتداء ، فإذا ذاقت المنة جاءت اختيارا . فالحلاوة التي كانت تجدها في المعصية ترجعُ تجدها في الطاعة .
مثال الإيمان في القلب كالشجرة الخضراء ، فإذا كثرت عليها المعاصي يبست وفرغ إمدادها فمن أحب القيام بالواجبات فليترك المحرمات ، ومن ترك المكروهات أُعين على تحصيل الخيرات ، ومن ترك المباحات وسع عليه توسعة لا يسعها عقله ، وأباح له حضرته ،
ومن ترك استماع ما حُرم عليه أسمعه كلامه . ولكن ما أهون القُربة التي فيها هون نفسك عليك ، وما أثقل ما ليس فيه هوى ! مثاله أن تحج تنفلا ، فإن قيل لك : تصدق بذلك شق عليك ، لأن أمر الحج يُرى ، فللنفس فيه حظ والصدقة تُطوى وتُنسى .
وكذلك درسك العلم لغير الله ، فإنك تدرس الليل كله ونفسك طيبة بذلك ،فإذا قيل لك : صل بالليل ركعتيت شق ذلك عليك ، لأن الركعتين بينك وبين الله تعالى ، ليس فيهما للنفس حظ ، والقراءة والدرس للنفس فيهما حظ مشاركة للناس ، فلأجل ذلك خف عليهما .
قال بعضهم : تاقت نفسي إلى الزواج فرأيت المحراب قد انشق وخرج منه نعل من ذهب ، مكلل باللؤلؤ
فقيل لي: هذا نعلها فكيف وجهها ؟ فانقطعت شهوة النكاح من قلبي .
من هُيئت له المنازل لم يُرض له بالقعود على المزابل ، فاعمل الأعمال الصالحات بينك وبين الله سرا ولا تُطلع عليها أهلك ، واجعله مُدخرا عند الله تجده
يوم القيامة فإن النفس لها تمتع بذكر العمل . صام بعضهم أربعين سنة ولم يعلم به أهله .
لا تنفق أنفاسك في غير طاعة الله ، ولا تنظر إلى صغر النفس بل انظر إلى مقداره وإلى ما يعطي الله فيه للعبد فالأنفاس جواهر ، وهل رأيت ـحدا يرمي جوهرة على مزبلة ؟!
أفتصلح ظاهرك وتُفسد باطنك ؟! فمثالك كالمجذوم لبس ثيابا جديدة،ويخرج منه في الباطن القيح والصديد ، فأنت تُصلح ما ينظر إليه الناس ، ولا تُصلح قلبك الذي هو لربك !.
الحكمة كالقيد ، إن قيدت بها نفسك امتنعت ، وان رميتها تسيبت ،ويُخاف عليك . مثال ذلك كالمجنون في بيتك يُخربه ويُقطع الثياب ، فإذا قيدته استرحت منع وإذا طرحت القيد وخرجت فالضرر باق .
يا أيها الشيخ ، قد أفنيت عمرك فاستدرك ما فاتك ، قد لبست البياض وهو الشيب
والبياض لا يحمل الدنس .
مثال القلب كالمرآة ، ومثال النفس كالنفس كلما تنفست النفس على المرآة سودها .
قلب الفاجر كمرآة العجوز التي ضعفت همتها أن تجلوها وتنظر فيها ، وقلب العارف كمرآة العروس ، كل يوم تنظر فيها فلا تزال مصقولة .
همة الزاهدين في كثرة الأعمال ، وهمة العارفين في تصحيح الأحوال .
أربعة تُعينك على جلاء قلبك : كثرة الذكر ولزوم الصمت والخلوة وقلة المطعم والمشرب .
أهل الغفلة إذا أصبحوا يتفقدون أموالهم ، وأهل الزهد والعبادة يتفقدون أحوالهم ، وأهل المعرفة يتفقدون قلوبهم مع الله عز وجل .
ما من نفس يُبديه الله تعالى فيك من طاعة أو مرض أو فاقة إلا وهو يريد أن يختبرك بذلك ، ومن طلب الدنيا بطريق الآخرة كان كمن أخذ ملعقة ياقوت يغرف بها العذرة - الغائط - أفما يُعد هذا أحمق ؟!
لاتعتقد أن الناس فاتهم العلم ، بل فاتهم التوفيق أكثر من العلم .
أول ما ينبغي لك أن تبكي على عقلك ، فكما يقع القحط في الكلأ يقع في عقول الرجال . وبالعقل عاش الناس مع الناس ، ومع الله تعالى : مع الناس بحُسن الخُلق ، ومع الله باتباع مرضاته .
إن من الله عليك بثلاث فقد من عليك بالنعمة الكبرى :
الأولى الوقوف على حدوده ، والثانية الوفاء بعهوده ، والثالثة الغرق في شهوده - أن تلاحظ الحق سبحانه حتى كأنك تراه نُصب عينك - .
وما سبب استغرابك لأحوال العارفين إلا استغراقك في القطيعة ولو شاركتهم في الأسفار لشاركتهم في الأخبار ، ولو شاركتهم في العناء لشاركتهم في الهناء .
ما مثال نفسك وقت الرضا إلا كالبعير المعقول ، فإذا سيبته انطلق ، قال رسول الله " لقلب ابن آدم أشدُ تقلبا من القدر على النار إذا غلت .
فكم من كان في جمع مع الله أتته الفرقة في نفس واحد ، وكم من بات في طاعة الله ما طلعت عليه الشمس حتى دخل في القطيعة ، فالقلب بمثابة العين ، والعين لا يُرى بها كلها ، بل بمقدار العدسة منها
فكذلك القلب لا يراد منه اللحمانية ، بل اللطيفية التي أودعها الله فيه وهي المُدركة ، وجعل الله القلب معلقا في الجانب الأيسر كالدلو ، فإن هب غليه هوى الشهوة حركه ، وإن هب عليه خاطر التُقى حركه ، فتارة يغلب عليه خاطر الهوى ، وتارة يغلب عليه خاطر التقى ،
حتى يُعرفك مرة منه ومرة قهره . فمرة يُغلب عليه خاطر التقى ليمدحك ، ومرة يُغلب عليه خاطر الهوى ليذمك . فالقلب بمثابة السقف ، فإذا أُوقد في البيت نار صعد الدخان إلى السقف فسوده ، فكذلك دُخان الشهوة ، إذا نبت في البدن صعد دُخانه إلى القلب فسوده .
إذا ظلمك الغوي فارجع إلى القوي ، ولا تخف منه فيُسلط عليك .
مثال من يشهد الضرر من المخلوقين كمن ضرب الكلب بحجر ، فأقبل الكلب على الحجر يعضه ولا يعرف أن الحجر ليس بفاعل ، فيكون هو والكلب بسواء
( أي الإنسان الذي يشهد ويرى الضرر من المخلوقين لا من خالقهم ) .
ومثال من يشهد الإحسان من المخلوقين كالدابة إذا رأت سايسها بصبصت - حركت ذيلها -ويدنو إليها مالكها فلا تُلقي إليه بالا .
فإن كنت عاقلا فاشهد الأشياء من الله عز وجل ولا تشهدها من غيره .
ليس التائه من تاه في البرية ، بل التائه من تاه عن سبيل الهدى .
تطلب العز من الناس ، ولا تطلبه من الله ، فمن طلبه من الناس فقد أخطأ الطريق ، ومن أخطأ الطريق لم يزده سيره إلا بعدا فهذا هو التائه حقا .
إذا قلت : لا إله إلا الله ، طالبك الله بها وبحقها وهو ألا تنسب الأشياء إليه .
مثال القلب إذا أسلمته إلى النفس كمن تعلق بغريق فغرق كل واحد منهما ، ومثال النفس إذا أسلمتها للقلب كمن أسلم نفسه إلى عوام قوي فسلمها ، فلا تكن كمن أسلم قلبه إلى نفسه ! هل رأيت بصيرا قلد نفسه إلى أعمى يقوده ؟!
إن أمكنك أن تُصبح وتُمسي وما ظلمت أحدا من العباد فأنت سعيد ، فإن لم تظلم نفسك فيما بينك وبين الله ، فقد تكملت لك السعادة ، فأغلق عينيك وسُد أذنيك وإياك إياك وظُلم العباد .
ما مثالك في صغر عقلك وكونك لا تعلم ما عليك من الملابس إلا كالمولود تكسوه أمه أحسن الملابس وأفخرها ، وهو لا يشعر وربما دنسها ونجسها فتسرع إليه أمه وتكسوه أخرى ، لئلا يراه الناس كذلك وتغسل ما تنجس وهو لا يعلم ما فُعل به لصغر عقله .
عن الشيخ أبي الحسن الشاذلي رحمه الله أنه قال : قسل لي : يا علي ، طهر ثيابك من الدنس تحظ بمدد الله في كل نفس .
فقلت : وما ثيابي ؟ فقيل لي : إن الله كساك حُلة المعرفة ثم حلة التوحيد ثم حلة المحبة ، ثم حلة الإيمان ثم حلة الإسلام، فمن عرف الله صغر لديه كل شيء ومن أحب الله هان عليه كل شيء ، ومن وحد الله لم
يُشرك به شيئا ، ومن آمن بالله أمن من كل شيء ، ومن أسلم لله قلما يعصيه ، وإن عصاه اعتذر إليه ، وإن أعتذر إليه قبل عذره . قال ففهمت ذلك من قوله تعالى " وثيابك فطهر ".
يا من عاش وما عاش ، تخرج من الدنيا وما ذُقت ألذ شيء فيها وهي مناجاة الحق سبحانه ومخاطبته لك ، فأنت مُلقى جيفة بالليل ، فإن دُفعت عنه فاستغث بالله ، وقل : يا ملائكة الله ويا رسول ربي ، فاتتني الغنيمة التي نالوها من لذة المناجاة ووداد المصُفاة .
إذا كان العبد مُعجبا بطاعته ، متكبرا على خلقه ، ممتلئا عظمة يطلب من الخلق أن يوفوا حقوقه ، ولا يوفي حقوقهم ، فهذا يخشى عليه سوء الخاتمة ، والعياذ بالله !.
وإن كان إذا فعل معصية تراه باكيا حزينا ، منكسرا ذليلا ، يتطارح على أرجل الصالحين ويزورهم معترفا بالتقصير ، فهذا يُرجى له حسن الخاتمة .
إذا طلبت قارئا وجدت مالا يُحصى ، وإذا طلبت طبيبا وجدت كثيرا وإذا طلبت فقيها وجدت مثل ذلك ، وإن طلبت من يدُلك على الله ويُعرفك بعيوب نفسك لم تجد إلا قليلا ، فإن ظفرت به فأمسكه بكلتا بديك .
إن أردت أن تُنصر فكن كلك ذلة ، قال الله تعالى :" ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة ". إن أردت أن تُعطى فكن كلك فقرا :" إنما الصدقات للفقراء والمساكين ".
تكون في وسط النهر وأنت عطشان ، تكون معه في الحضرة وأنت تطلب الإتصال ، كأن العباد لم يتواصلوا إلى الآخرة إلا بكثرة المآكل والمشارب ، أو قيل لهم : هذه توصلكم إلى الآخرة ؟!. ولكن ما أرخص نفسك عليك ! لولا هوانها عليك ما عرضتها لعذاب الله تعالى ، وما أغلاها في طلب الدنيا وجمعها !
والعجب كل العجب في من يسأل المنجم عن حاله ، ولا يسأل كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
إذا ضعفت عن العبادة فرقع عبادتك بالبكاء والتضرع .
وإذا قيل لك :من يُبكي عليه ؟ فقل : عبدٌ عُفي فأنفق عافيته في معصية الله !!
إذا نمت على تخليط رأيت التخليط في منامك ، بل ينبغي لك أن تنام على طهارة وتوبة ، فيفتح قلبك بنوره.
ولكن من كان في نهاره لاغيا ، كان في ليله عن الله ساهيا .
إذا رأيت وليا لله تعالى فلا يمنعك إجلاله من أن تقعد بين يديه متأدبا وتتبرك به .
يتبع
https://essalihine.yoo7.com/t113-topic#123
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى