مزاعم الدكتور محمَّد الهادي الحسني حول الأصول المرجعيَّة للباديسيَّة
صفحة 1 من اصل 1
مزاعم الدكتور محمَّد الهادي الحسني حول الأصول المرجعيَّة للباديسيَّة
مزاعم الدكتور محمَّد الهادي الحسني حول الأصول المرجعيَّة للباديسيَّة
راسلني بعض الأساتذة بوَثائقي يتناول الصِّراع "الباديسي - الطُّرقي"، عُرض على قناة "الشُّروق" الجزائريَّة، وهي قناة ذات توَجُّه معروف، متحيِّزَة لفئة "الباديسيَّة" بشكل لا يشك فيه اثنان، ولا ينتطح عليه عنزان.
المهم، استوقفني في هذا الوَثائقي دعوى عريضة أطلقها الدُّكتور محمَّد الهادي الحسني، تناولت مدى أصالة المرجعيَّة الدِّينيَّة التي استندَ إليها الباديسيَّة في صِراعهم مع مخالفيهم مِن الطُّرقيَّة، حيث زعم الدُّكتور بأنَّ الحركةَ (الإصلاحيَّة!) التي جاء بها أسلافه الباديسيَّة في هذا الشَّأن؛ ليست بِدْعًا على بلدنا الجزائر؛ بل أصولها متجذِّرة، تناقلتها أيمَّة هذه الأرض المحروسة؛ الَّذين حاربوا البِدع والخرافات، وعلى هذا فالباديسيَّة وفق هذا الطَّرح: خير خلف لخير سلف.
واستشهد الرَّجل ليثبت صحَّة دعواه بالإمام سيدي عبد الرَّحمن الأخضري البنطيوسي الأخضري، ويقصد منظومته "القُدْسِيَّة" التي ألَّفها في الرَّدِّ على المتصوِّفة، واستشهد أيضا بالإمام عبد الكريم بن الفَكُّون القَسنطيني، ويقصد ما جاء في كتابه "منشور الهداية".
وقد أدلى الدُّكتور بهذه التَّصريحات - على ما يبدو -، في محاولة منه لتكذيب ما قرَّرهُ الباحثُ الدُّكتور محمَّد الصَّالح آيت علجت - رحمه الله - وغيره من الباحثين؛ ألا وهو كون الباديسيَّة لا سلف لهم في بلدنا الجزائر فيما شذُّوا به عن أعلام هذه البلاد سلفا وخلفا، وأنَّ سلفهم الوحيد في شذوذاتهم هو الحركة الوَهَّابيَّة المعروفة في نشر بِدعة التَّكفير والتَّقتيل.
والتعليق على هذه الدعوى باختصار:
أوَّلًا: يعتقد بعضُ أدعياء السَّلفيَّة ومُشتقَّاتها كالعبدَوِيَّة والباديسيَّة ومَن نسج على منوالهم: أنَّ كل إمام من أيمَّة المتمذهبة حارب أدعياء المتصوِّفة ودُخلاء الطُّرقيَّة من المُرتزقة والحشَّاشين والمطبِّلين للحكَّام والطُّغاة وأضرابهم، يعتقدون أنَّهُ - حتما! - جارٍ على أصولهم في (إكفار!) عُموم علماء الإسلام، فضلا عن العامَّة مِن المستغيثين والمتوسِّلين بالأولياء والصَّالحين...الخ، لأجل هذا تجدهم ينقِّبون دائما في أعماق التَّاريخ علَّهم يجدون سلفًا لأسلافهم، وبالتَّالي يتخلَّصون من عُقدة أنَّهم دُخلاء أدعياء، سندهم مبتور في شذوذاتهم.
ثانيًا: ما وقع فيه حضرة الدُّكتور محمد الهادي الحسني هنا سبقه إليه الدُّكتور المؤرخ أبو القاسم سعد الله القماري، فقد ألَّفَ كتاب: "شيخ الإسلام عبد الكريم الفكُّون داعية السَّلفيَّة"، وطبعًا لا معنى للسَّلفيَّة هنا إذا كان صاحبها من دعاة التَّوسُّل والاستغاثة والاستشفاع والتَّبرُّك بالأنبياء والأولياء الصَّالحين...الخ المسائل الفيصليَّة المعروفة، والتي تعدُّ أُسُّ عداء الباديسيَّة للطُّرقيَّة.
ثالثًا: وقبل هذا، سبقهم إلى هذه الدَّعوى العريضة، الشيخ ابن باديس نفسه، فادَّعى في حاصل كلامه أنَّ منهج الباديسيَّة في محاربة الطُّرقِيَّة مسبوق بمساعي الشَّيخ عبد الكريم الفكُّون، والإمام عبد الكريم الأخضري وغيرهما.
قال الشَّيخ ابنُ باديس في مقال "إنكَارُ العلماءِ المُتقَدِّمين على المُدَّعين المُبتدِعِين": ((إنكارُ الشَّيخ عبد الرَّحمن الأخضَريِّ الجزائري، مِن أهل القرن العاشِر: لهذا العالِم الصَّالح قَصيدة تُعرف بِـ: "الْقُدْسِيَّةِ"، مَشهورة، وَصفَ فيها هذه الطَّائفة وَصفاً كاسِفاً فاضحاً، صوَّرَهم على الصُّورةِ الَّتي يَعرِفُها مِنهم كلّ مَن عَرَفَهم، ولا يستطيعُ أن يُّنكرها أحدٌ حتَّى المتعَصِّب لهم، وممَّا قال فيهم: وَظهرَت في هذه البلَاد *** طائِفة البَلعِ والازدِراد..الخ)) [الآثار (3/45)، ط. دار الغرب الإسلامي].
وقال هناك أيضا: ((إِنكارُ الشَّيخ عبد الكريم الفَكُّون القَسنْطِيني، مِن أهلِ القرن الحادي عَشر: قال في كتابه: "مَنشور الهِداية في التَّعريف بحال مَن ادَّعى العِلم والوِلاية" فلمَّا رأيتُ الزَّمان بأهله تعثَّر، وسفائن النَّجاة مِن أمواج البِدَع تتكسَّر، وسحائب الجهل قد أضلَّت...)) [الآثار (3/45-46)، ط. دار الغرب الإسلامي].
فعندما يقرأ الباحث مثل هذه التَّقارير، الصَّادِرة بهذا السِّياق الخاصِّ مِن الشَّيخ ابن باديس، فالمفروض أن ينقدح في ذهنه أنَّ هؤلاء الأيمَّة قاموا قديما - وقبل مجيء الباديسيَّة بقرون - بمحاربة طُرقيَّة عصرهم لأجل الاستغاثة والتَّبرُّك والتَّوَسُّل وغيرها من المسائل الخطيرة التي جدَّدت بعدهم الباديسيَّة - إبَّان عصر الاستدمار - مُحاربتها في أفعال خلف الطُّرقِيَّة هؤلاء، تماما كما حاربها أسلافُ الباديسيَّة أي: هؤلاء الأيمَّة، وبالتالي: فللباديسيَّة - في هذا البلد - سلف في دعواهم، فهم أصلاء وليسوا دُخلاء كما يزعم خصومهم الطُّرُقيَّة.
وأصدقُ دليل على هذه الحقيقة المتوخَّاة من طرف أسلاف الباديسيَّة: ما يردِّده للأسف - بلا بحث ولا تمحيص بل بسياسة "اتبعني مغمض العينين" - أتباع "الباديسيَّة" هنا، على غرار الدكتور محمَّد الهادي الحسني، والدكتور أبو القاسم سعد الله، وغيرهم كثير.
رابعاً: نذكر للباحث النَّزيه مذهب الإمام عبد الرَّحمن الأخضري في مسألة واحدة فقط، فيصليَّة عند الباديسيَّة، ليتبيَّن من خلالها مدى صدق هذه الدَّعوى العريضة:
قال سيِّدي عبد الرَّحمن الأخضري البنطيوسي مخاطبًا سيِّد الخلق وحبيب الحق صلَّى الله عليه وآله وسلَّم:
((فَيَا حَبِيبِي ويا ذُخرِي ويا أَمَلِي *** ويا شَفِيع الوَرَى في الضَّيْقِ والْخَطَرِ
ويا رَجَائِي ويا عِزِّي ويا سَنَدِي *** ويا عِمَادِي ومَنْ أَقْضِي بِهِ وَطرِ
ما لي شَفِيعٌ ولَا مَنْ أَسْتَغِيثُ بهِ *** سِوَاكَ يَا سَيِّدَ الأَمْلَاكِ والْبَشَرِ
هذا عُبَيْدكَ الْجَانِي ينُوحُ أخًا *** قلب كَئِيب مِنَ الزَّلاَّتِ مُنكَسِر)) [الرَّائيةُ في المدح النَّبوي، نقلاً عن فوزي مصمودي في دراسته "العلَّامة الموسوعي عبد الرَّحمن الأخضري (1514-1575م) شخصيته ومواقفه وآثاره" (ص: 174)، موفم للنَّشر: الجزائر 2008م].
وَ: ((في بيتٍ آخر يُجيزُ الشَّيخُ الأخضريُّ زيارةَ ضريحه [أي: سيدي خالد بن سنان] مثل زيارة باقي الأنبياء - عليهم السَّلام -، وكذلك الاستغاثة به وبهم:
أكرم بزائره تَحْظَ بِحُرمتهِ *** ما حلَّ حُرمة مَنْ قَدْ لَاذَ بالرُّسلِ
حَاشَا الإله يَرُدُّ المُسْتَغَاث بِهِ *** خَصَّ النَبِيِّينَ بالإكرَامِ والحُلل
وفي مكان آخر من القصيدة: أنَّ مَن فَرَّ إلى سيِّدي خالد بنِ سنان ينجو ممَّا حلَّ به من كربٍ:
وأنتَ يا سيِّدي مَنْ جَاءَ زَائِركُم *** يَنْجُو مِنَ الْهَمِّ وَالأَهْوَالِ والوَجلِ
إنَّ النَبِيِّينَ عند الله في عظمٍ *** مَنِ اِسْتَغَاثَ بِهِم يَنْجُو مِنَ الوَحَلِ
ثمَّ يعمد الشَّيخ الأخضري إلى الاستغاثة بسيدي خالد بن سنان العبسي باعتباره من أنبياء الله، مُطبِّقًا على نفسه دعوته متوَسِّلًا بجاهه، يرجو ربَّه أن يغفر له خطاياه التي كثرت وذنوبه التي عظُمت:
وهَا أنا ذا كثيرَ الوِزرِ مُستَنِدٌ *** بِجَاهِكُم فعسى مَولاَيَ يَغفر لي)) [المصدر السَّابق (ص: 181)].
والاستغاثة بالأنبياء والأولياء الصالحين: مِن الشِّرك الأكبر عند الباديسيَّة!!!، فالرَّجل وفق منظورهم الوَهَّابي: طُرقي!!!، قُبوري!!!، خرافي!!!، مُشركٌ حلال الدَّم والمال!!!...الخ الأسطوانة المخرومة، فكيف يدَّعون إذن أنَّه: سلفيٌّ على مشربهم؟!!!.
وهذه المسألة لوحدها فقط تنسف الدَّعوى الباديسيَّة من جذورها.
خامساً: وبنفس المنهجيَّة: نذكر للباحث النَّزيه بعض تقريرات الإمام عبد الكريم الفكُّون، ليتبيَّن من خلال هذا العرض مدى صدق هذه الدَّعوى الباديسيَّة العريضة:
روى الإمام عبد الكريم الفكُّون القسنطيني (ت : 1662 م) - بإقرار وإمرار - تفاصيل احتضار جدِّه، نقلا عن والده، فقال: ((وحكى الوَالدُ أنَّه نَصَبَ يدَيه فِي أوان احتضاره، واستقبَلَ القِبلةَ كَالمُطَّلع على شَيءٍ، وهو يقول: الشَّفَاعَة يَا رَسولَ الله!، الشَّفَاعَة يَا رَسولَ الله!، مَازَال يُكرِّرهَا وهو كالطَّالِب مِن شَخصٍ أَمامَهُ إلى أَن ردَّ يَدَيهِ إِلى وجهِهِ ماسحًا بهما وجهَهُ)) [منشور الهداية (ص: 51)، ط. دار الغرب الإسلامي] وهذا من الشِّرك الأكبر المبيح للدَّم والمال عند الباديسيَّة!!!.
وقال عن الإمام زرُّوق البرنُسي: ((الشَّيخُ الصَّالِحُ القُطبُ الغَوْثُ)) [منشور الهداية (ص: 35)، ط. دار الغرب الإسلامي] ونسبة الغوث للمخلوق شرك أكبر عند الباديسية.
وَقال أيضا: ((اللَّهُمَّ إِنَّا نَسألك بوجهك العظيم، وبِنَبِيِّنَا مُحمَّد صلَّى الله عليه [وَآلِهِ] وسلَّم تسليمًا، وقَدْرهِ الكريم، وبأصحابه وأَوليائِه وأهل بيته...)) [منشور الهداية (ص: 89)، ط. دار الغرب الإسلامي] وهذا توسُّل بحضرة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلَّم وبآله وبأصحابه.
وقال في ترجمة "يحيى بن سليمان الأوراسي": ((كانَ مشاركًا في العلومِ، يخالط بعض سرِّ الحروف، مُنتهيًا فِي التَّصَوُّفِ، لَهُ مِن أصحابِها سلسلة وخَرقَة، كما رأيته بخطِّه - رحمه الله -)) [منشور الهداية (ص: 54)، ط. دار الغرب الإسلامي] وهذا فيه لبس الخرقة الصوفيَّة.
وقال في ترجمة "أحمد الجزيري": ((كان - رحمه الله - مدرِّساً من أهل الفتوى والدُّخول في الشُّورى، وتوَلَّى النّيابةَ في القضاء عن قُضاة العَجم...وكان يحمل النَّاسَ معه إلى زيارةِ قُبور الأولياءِ خارج البلدةِ)) [منشور الهداية (ص: 69)، ط. دار الغرب الإسلامي] وهذه (قبوريَّة!) عند الباديسيَّة.
وقال في ترجمة "الوَزَّان": ((ومِن كراماته - رضي الله عنه -: ما يتحدَّث بها أنَّه خرج ذات يوم في قيلولة شديدة على باب البلد في غير عادة خروجه، فاتبعه رجل من الطَّلبة يقفو أثره ولم يعلم به الشَّيخ، والشَّيخ - رضي الله عنه - ماشٍ نحوَ "الكديَة"، فخرج عليه رَجل وتكلَّم معهُ مليًّا ثمَّ انصَرَف، فلَحقَ بالشَّيخ الرَّجل الَّذي يقفو أثره، فسأله عن الرَّجل الَّذي كانَ يُحادثه، فقال له الشَّيخ: أرأيتَه؟ فقال: نعَم، فقال له: هُو القُطِبُ)) [منشور الهداية (ص: 37)، ط. دار الغرب الإسلامي] وهذا قول بالقُطبيَّة.
وقال: ((ولله درُّ الشَّيخ مُحيي الدِّين)) [منشور الهداية (ص: 134)، ط. دار الغرب الإسلامي] يقصد: الشَّيخ ابن العربي الحاتمي الأندلسي، وهو من دعاة الحلول والاتِّحاد عند جمهور الباديسيَّة.
وله قصائد كثير يستغيث فيها بحضرة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، ذكر بعضها الإمام العلَّامة عبد الله بن محمَّد العيَّاشي كما في رحلته المعروفة [الرِّحلة العيَّاشية (2/515) فما بعد، ط. دار السويدي].
نكتفي بهذا..
ختاما؛ يتوجَّب التَّنبيه إلى نقطة مُهمَّة؛ وهي: صحيح أنَّ هؤلاء الأيمَّة حملوا على "الحضرة" عند بعض الصُّوفيَّة - وهي مسألة فقهيَّة جرى فيها سِجال ونقاش طويل بين مبيح بضوابطه عند غلبة الحال وبين مانع...الخ -، والحق أنَّ مذهب هؤلاء الأيمة أوفق مع منهج الزَّوايا المحافظة والطُّرقيَّة منه مع منهج الباديسيَّة، ويكفي أنَّهم في نظر الباديسيَّة: من دعاة الشِّرك الأكبر المبيح للدَّم والمال، وهذا أمر في غاية الخطورة.
هذا والعلم عند الله وحده.
راسلني بعض الأساتذة بوَثائقي يتناول الصِّراع "الباديسي - الطُّرقي"، عُرض على قناة "الشُّروق" الجزائريَّة، وهي قناة ذات توَجُّه معروف، متحيِّزَة لفئة "الباديسيَّة" بشكل لا يشك فيه اثنان، ولا ينتطح عليه عنزان.
المهم، استوقفني في هذا الوَثائقي دعوى عريضة أطلقها الدُّكتور محمَّد الهادي الحسني، تناولت مدى أصالة المرجعيَّة الدِّينيَّة التي استندَ إليها الباديسيَّة في صِراعهم مع مخالفيهم مِن الطُّرقيَّة، حيث زعم الدُّكتور بأنَّ الحركةَ (الإصلاحيَّة!) التي جاء بها أسلافه الباديسيَّة في هذا الشَّأن؛ ليست بِدْعًا على بلدنا الجزائر؛ بل أصولها متجذِّرة، تناقلتها أيمَّة هذه الأرض المحروسة؛ الَّذين حاربوا البِدع والخرافات، وعلى هذا فالباديسيَّة وفق هذا الطَّرح: خير خلف لخير سلف.
واستشهد الرَّجل ليثبت صحَّة دعواه بالإمام سيدي عبد الرَّحمن الأخضري البنطيوسي الأخضري، ويقصد منظومته "القُدْسِيَّة" التي ألَّفها في الرَّدِّ على المتصوِّفة، واستشهد أيضا بالإمام عبد الكريم بن الفَكُّون القَسنطيني، ويقصد ما جاء في كتابه "منشور الهداية".
وقد أدلى الدُّكتور بهذه التَّصريحات - على ما يبدو -، في محاولة منه لتكذيب ما قرَّرهُ الباحثُ الدُّكتور محمَّد الصَّالح آيت علجت - رحمه الله - وغيره من الباحثين؛ ألا وهو كون الباديسيَّة لا سلف لهم في بلدنا الجزائر فيما شذُّوا به عن أعلام هذه البلاد سلفا وخلفا، وأنَّ سلفهم الوحيد في شذوذاتهم هو الحركة الوَهَّابيَّة المعروفة في نشر بِدعة التَّكفير والتَّقتيل.
والتعليق على هذه الدعوى باختصار:
أوَّلًا: يعتقد بعضُ أدعياء السَّلفيَّة ومُشتقَّاتها كالعبدَوِيَّة والباديسيَّة ومَن نسج على منوالهم: أنَّ كل إمام من أيمَّة المتمذهبة حارب أدعياء المتصوِّفة ودُخلاء الطُّرقيَّة من المُرتزقة والحشَّاشين والمطبِّلين للحكَّام والطُّغاة وأضرابهم، يعتقدون أنَّهُ - حتما! - جارٍ على أصولهم في (إكفار!) عُموم علماء الإسلام، فضلا عن العامَّة مِن المستغيثين والمتوسِّلين بالأولياء والصَّالحين...الخ، لأجل هذا تجدهم ينقِّبون دائما في أعماق التَّاريخ علَّهم يجدون سلفًا لأسلافهم، وبالتَّالي يتخلَّصون من عُقدة أنَّهم دُخلاء أدعياء، سندهم مبتور في شذوذاتهم.
ثانيًا: ما وقع فيه حضرة الدُّكتور محمد الهادي الحسني هنا سبقه إليه الدُّكتور المؤرخ أبو القاسم سعد الله القماري، فقد ألَّفَ كتاب: "شيخ الإسلام عبد الكريم الفكُّون داعية السَّلفيَّة"، وطبعًا لا معنى للسَّلفيَّة هنا إذا كان صاحبها من دعاة التَّوسُّل والاستغاثة والاستشفاع والتَّبرُّك بالأنبياء والأولياء الصَّالحين...الخ المسائل الفيصليَّة المعروفة، والتي تعدُّ أُسُّ عداء الباديسيَّة للطُّرقيَّة.
ثالثًا: وقبل هذا، سبقهم إلى هذه الدَّعوى العريضة، الشيخ ابن باديس نفسه، فادَّعى في حاصل كلامه أنَّ منهج الباديسيَّة في محاربة الطُّرقِيَّة مسبوق بمساعي الشَّيخ عبد الكريم الفكُّون، والإمام عبد الكريم الأخضري وغيرهما.
قال الشَّيخ ابنُ باديس في مقال "إنكَارُ العلماءِ المُتقَدِّمين على المُدَّعين المُبتدِعِين": ((إنكارُ الشَّيخ عبد الرَّحمن الأخضَريِّ الجزائري، مِن أهل القرن العاشِر: لهذا العالِم الصَّالح قَصيدة تُعرف بِـ: "الْقُدْسِيَّةِ"، مَشهورة، وَصفَ فيها هذه الطَّائفة وَصفاً كاسِفاً فاضحاً، صوَّرَهم على الصُّورةِ الَّتي يَعرِفُها مِنهم كلّ مَن عَرَفَهم، ولا يستطيعُ أن يُّنكرها أحدٌ حتَّى المتعَصِّب لهم، وممَّا قال فيهم: وَظهرَت في هذه البلَاد *** طائِفة البَلعِ والازدِراد..الخ)) [الآثار (3/45)، ط. دار الغرب الإسلامي].
وقال هناك أيضا: ((إِنكارُ الشَّيخ عبد الكريم الفَكُّون القَسنْطِيني، مِن أهلِ القرن الحادي عَشر: قال في كتابه: "مَنشور الهِداية في التَّعريف بحال مَن ادَّعى العِلم والوِلاية" فلمَّا رأيتُ الزَّمان بأهله تعثَّر، وسفائن النَّجاة مِن أمواج البِدَع تتكسَّر، وسحائب الجهل قد أضلَّت...)) [الآثار (3/45-46)، ط. دار الغرب الإسلامي].
فعندما يقرأ الباحث مثل هذه التَّقارير، الصَّادِرة بهذا السِّياق الخاصِّ مِن الشَّيخ ابن باديس، فالمفروض أن ينقدح في ذهنه أنَّ هؤلاء الأيمَّة قاموا قديما - وقبل مجيء الباديسيَّة بقرون - بمحاربة طُرقيَّة عصرهم لأجل الاستغاثة والتَّبرُّك والتَّوَسُّل وغيرها من المسائل الخطيرة التي جدَّدت بعدهم الباديسيَّة - إبَّان عصر الاستدمار - مُحاربتها في أفعال خلف الطُّرقِيَّة هؤلاء، تماما كما حاربها أسلافُ الباديسيَّة أي: هؤلاء الأيمَّة، وبالتالي: فللباديسيَّة - في هذا البلد - سلف في دعواهم، فهم أصلاء وليسوا دُخلاء كما يزعم خصومهم الطُّرُقيَّة.
وأصدقُ دليل على هذه الحقيقة المتوخَّاة من طرف أسلاف الباديسيَّة: ما يردِّده للأسف - بلا بحث ولا تمحيص بل بسياسة "اتبعني مغمض العينين" - أتباع "الباديسيَّة" هنا، على غرار الدكتور محمَّد الهادي الحسني، والدكتور أبو القاسم سعد الله، وغيرهم كثير.
رابعاً: نذكر للباحث النَّزيه مذهب الإمام عبد الرَّحمن الأخضري في مسألة واحدة فقط، فيصليَّة عند الباديسيَّة، ليتبيَّن من خلالها مدى صدق هذه الدَّعوى العريضة:
قال سيِّدي عبد الرَّحمن الأخضري البنطيوسي مخاطبًا سيِّد الخلق وحبيب الحق صلَّى الله عليه وآله وسلَّم:
((فَيَا حَبِيبِي ويا ذُخرِي ويا أَمَلِي *** ويا شَفِيع الوَرَى في الضَّيْقِ والْخَطَرِ
ويا رَجَائِي ويا عِزِّي ويا سَنَدِي *** ويا عِمَادِي ومَنْ أَقْضِي بِهِ وَطرِ
ما لي شَفِيعٌ ولَا مَنْ أَسْتَغِيثُ بهِ *** سِوَاكَ يَا سَيِّدَ الأَمْلَاكِ والْبَشَرِ
هذا عُبَيْدكَ الْجَانِي ينُوحُ أخًا *** قلب كَئِيب مِنَ الزَّلاَّتِ مُنكَسِر)) [الرَّائيةُ في المدح النَّبوي، نقلاً عن فوزي مصمودي في دراسته "العلَّامة الموسوعي عبد الرَّحمن الأخضري (1514-1575م) شخصيته ومواقفه وآثاره" (ص: 174)، موفم للنَّشر: الجزائر 2008م].
وَ: ((في بيتٍ آخر يُجيزُ الشَّيخُ الأخضريُّ زيارةَ ضريحه [أي: سيدي خالد بن سنان] مثل زيارة باقي الأنبياء - عليهم السَّلام -، وكذلك الاستغاثة به وبهم:
أكرم بزائره تَحْظَ بِحُرمتهِ *** ما حلَّ حُرمة مَنْ قَدْ لَاذَ بالرُّسلِ
حَاشَا الإله يَرُدُّ المُسْتَغَاث بِهِ *** خَصَّ النَبِيِّينَ بالإكرَامِ والحُلل
وفي مكان آخر من القصيدة: أنَّ مَن فَرَّ إلى سيِّدي خالد بنِ سنان ينجو ممَّا حلَّ به من كربٍ:
وأنتَ يا سيِّدي مَنْ جَاءَ زَائِركُم *** يَنْجُو مِنَ الْهَمِّ وَالأَهْوَالِ والوَجلِ
إنَّ النَبِيِّينَ عند الله في عظمٍ *** مَنِ اِسْتَغَاثَ بِهِم يَنْجُو مِنَ الوَحَلِ
ثمَّ يعمد الشَّيخ الأخضري إلى الاستغاثة بسيدي خالد بن سنان العبسي باعتباره من أنبياء الله، مُطبِّقًا على نفسه دعوته متوَسِّلًا بجاهه، يرجو ربَّه أن يغفر له خطاياه التي كثرت وذنوبه التي عظُمت:
وهَا أنا ذا كثيرَ الوِزرِ مُستَنِدٌ *** بِجَاهِكُم فعسى مَولاَيَ يَغفر لي)) [المصدر السَّابق (ص: 181)].
والاستغاثة بالأنبياء والأولياء الصالحين: مِن الشِّرك الأكبر عند الباديسيَّة!!!، فالرَّجل وفق منظورهم الوَهَّابي: طُرقي!!!، قُبوري!!!، خرافي!!!، مُشركٌ حلال الدَّم والمال!!!...الخ الأسطوانة المخرومة، فكيف يدَّعون إذن أنَّه: سلفيٌّ على مشربهم؟!!!.
وهذه المسألة لوحدها فقط تنسف الدَّعوى الباديسيَّة من جذورها.
خامساً: وبنفس المنهجيَّة: نذكر للباحث النَّزيه بعض تقريرات الإمام عبد الكريم الفكُّون، ليتبيَّن من خلال هذا العرض مدى صدق هذه الدَّعوى الباديسيَّة العريضة:
روى الإمام عبد الكريم الفكُّون القسنطيني (ت : 1662 م) - بإقرار وإمرار - تفاصيل احتضار جدِّه، نقلا عن والده، فقال: ((وحكى الوَالدُ أنَّه نَصَبَ يدَيه فِي أوان احتضاره، واستقبَلَ القِبلةَ كَالمُطَّلع على شَيءٍ، وهو يقول: الشَّفَاعَة يَا رَسولَ الله!، الشَّفَاعَة يَا رَسولَ الله!، مَازَال يُكرِّرهَا وهو كالطَّالِب مِن شَخصٍ أَمامَهُ إلى أَن ردَّ يَدَيهِ إِلى وجهِهِ ماسحًا بهما وجهَهُ)) [منشور الهداية (ص: 51)، ط. دار الغرب الإسلامي] وهذا من الشِّرك الأكبر المبيح للدَّم والمال عند الباديسيَّة!!!.
وقال عن الإمام زرُّوق البرنُسي: ((الشَّيخُ الصَّالِحُ القُطبُ الغَوْثُ)) [منشور الهداية (ص: 35)، ط. دار الغرب الإسلامي] ونسبة الغوث للمخلوق شرك أكبر عند الباديسية.
وَقال أيضا: ((اللَّهُمَّ إِنَّا نَسألك بوجهك العظيم، وبِنَبِيِّنَا مُحمَّد صلَّى الله عليه [وَآلِهِ] وسلَّم تسليمًا، وقَدْرهِ الكريم، وبأصحابه وأَوليائِه وأهل بيته...)) [منشور الهداية (ص: 89)، ط. دار الغرب الإسلامي] وهذا توسُّل بحضرة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلَّم وبآله وبأصحابه.
وقال في ترجمة "يحيى بن سليمان الأوراسي": ((كانَ مشاركًا في العلومِ، يخالط بعض سرِّ الحروف، مُنتهيًا فِي التَّصَوُّفِ، لَهُ مِن أصحابِها سلسلة وخَرقَة، كما رأيته بخطِّه - رحمه الله -)) [منشور الهداية (ص: 54)، ط. دار الغرب الإسلامي] وهذا فيه لبس الخرقة الصوفيَّة.
وقال في ترجمة "أحمد الجزيري": ((كان - رحمه الله - مدرِّساً من أهل الفتوى والدُّخول في الشُّورى، وتوَلَّى النّيابةَ في القضاء عن قُضاة العَجم...وكان يحمل النَّاسَ معه إلى زيارةِ قُبور الأولياءِ خارج البلدةِ)) [منشور الهداية (ص: 69)، ط. دار الغرب الإسلامي] وهذه (قبوريَّة!) عند الباديسيَّة.
وقال في ترجمة "الوَزَّان": ((ومِن كراماته - رضي الله عنه -: ما يتحدَّث بها أنَّه خرج ذات يوم في قيلولة شديدة على باب البلد في غير عادة خروجه، فاتبعه رجل من الطَّلبة يقفو أثره ولم يعلم به الشَّيخ، والشَّيخ - رضي الله عنه - ماشٍ نحوَ "الكديَة"، فخرج عليه رَجل وتكلَّم معهُ مليًّا ثمَّ انصَرَف، فلَحقَ بالشَّيخ الرَّجل الَّذي يقفو أثره، فسأله عن الرَّجل الَّذي كانَ يُحادثه، فقال له الشَّيخ: أرأيتَه؟ فقال: نعَم، فقال له: هُو القُطِبُ)) [منشور الهداية (ص: 37)، ط. دار الغرب الإسلامي] وهذا قول بالقُطبيَّة.
وقال: ((ولله درُّ الشَّيخ مُحيي الدِّين)) [منشور الهداية (ص: 134)، ط. دار الغرب الإسلامي] يقصد: الشَّيخ ابن العربي الحاتمي الأندلسي، وهو من دعاة الحلول والاتِّحاد عند جمهور الباديسيَّة.
وله قصائد كثير يستغيث فيها بحضرة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، ذكر بعضها الإمام العلَّامة عبد الله بن محمَّد العيَّاشي كما في رحلته المعروفة [الرِّحلة العيَّاشية (2/515) فما بعد، ط. دار السويدي].
نكتفي بهذا..
ختاما؛ يتوجَّب التَّنبيه إلى نقطة مُهمَّة؛ وهي: صحيح أنَّ هؤلاء الأيمَّة حملوا على "الحضرة" عند بعض الصُّوفيَّة - وهي مسألة فقهيَّة جرى فيها سِجال ونقاش طويل بين مبيح بضوابطه عند غلبة الحال وبين مانع...الخ -، والحق أنَّ مذهب هؤلاء الأيمة أوفق مع منهج الزَّوايا المحافظة والطُّرقيَّة منه مع منهج الباديسيَّة، ويكفي أنَّهم في نظر الباديسيَّة: من دعاة الشِّرك الأكبر المبيح للدَّم والمال، وهذا أمر في غاية الخطورة.
هذا والعلم عند الله وحده.
مواضيع مماثلة
» الشيخ الهادي بن عيسى
» من جوامع كلام الشيخ الهادي بن عيسى قدس الله سره
» راي الدكتور على جمعة في الاحباش
» راي الشيخ الدكتور وهبة الزحيلي في الاحبش
» ردا على افتراءات الدكتور الوهابي فركوس ومن تبعه من التيمية المجسمة!!!.
» من جوامع كلام الشيخ الهادي بن عيسى قدس الله سره
» راي الدكتور على جمعة في الاحباش
» راي الشيخ الدكتور وهبة الزحيلي في الاحبش
» ردا على افتراءات الدكتور الوهابي فركوس ومن تبعه من التيمية المجسمة!!!.
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى