آداب التّلميذ بين أسرته ومنزله ((من كتاب نيراس المهذب لاخلاق الشباب))
أي هذا باب مايطلب على التّلميذ في بيته وبين أسرته من المحافظة على الأدب ومكارم الأخلاق وأدب الأكل إلى غير ما اشتمل عليه الباب.
قال [المصنّف] رضي الله عنه:
وكن من الكمال في ازدياد *** في بيتك الخالي من النّقاد
كن فعل أمر والمأمور التّلميذ، المعنى كن أيّها التّلميذ في بيتك على حالة كاملة محمودة أدبيّة في جميع حركاتك وسكناتك مع أهل بيتك وفي أكلك وشربك، ولا تقل هذا بيتي ولا من ينقد عليّ فيه، فإنّك إن لم تحافظ على الأدب في الخلوة وتهذّب نفسَك وتروّضها عليه حتّى يكون مطبوعا فيها لم تقدر على إتيان به حال التّعليم والجلوس في المحافل.
ثمّ قال [المصنف رحمه الله]
سلّم على وليّك المكـرّم *** وقـبّلـن راحتـه واحتـشـم
وقف لديه وقفة المؤدّب *** والتزم الجلوس فوق الرّكب
أي وإذا دخلت البيت فسلّم على من فيه، وخصّص والديك ومن يطلب احترامه بتقبيل اليد مع الأدب وإطراق رأسٍ وخفض صوتٍ، وقف لديه كوقوفك بين بين يدي المؤدِّب، وإذا جلست فاجلس على ركبتيك كجلوسك للصّلاة والمعلّم هـ، فإنّ الشرّع رغّب في تقبيل يد من يجوز له التّواضع، ففي الصّحيح أنّ وفد عبد القيس لما قدموا على النّبي صلّى الله عليه وسلّم ابتدروا يديه ورجليه، وفي سنن البيهقي أنّ عائشة رضي الله عنها قالت: ما رأيت أحدا كان أشبه كلاما وحديثا من فاطمة برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان إذا دخل عليها رحّبت به وقامت وأخذت بيده فقبّلتها، وكانت إذا دخلت عليه رحّب بها وقام إليها وأخذ بيدها وقبّلها وأجلسها في مجلسه
وإلى ذلك أشار الشّهاب الخفاجي فقال:
قبّل يد الخيرة أهل التّقى *** ولا تخف طعن أَعَادِيهِمْ
ثمّ إذا ما قُدِّم الطّـعـام *** فكن غلام عنده احـتشـــام
وابتديء الأكل ببسم الله *** واخـتـم بذكـر الـحمـد للإلـــه
ولا تعب أيّ طعام قُدّما *** بل كن شكورا للذي قد أنعما
أي وإذا وضع الطّعام فكن على أكمل الأدب مع احتشام وانكسار وجلوس ينبيء عن الشّكر، وابتديء الأكل ببسم الله وصغّر اللّقمة وكل ممّا يليك ولا يكن انتظارك دائما إلى القصعة لأنّ ذالك يدل على النّهمة، ولا إلى من يقسم اللّحم على فرض وجوده، وكل بثلاثة أصابع ففي ألفيه السّيرة:
يأكل بالأصابع الثّلاثة *** يلعقها بقصد ذي البركة.
يبـدأ بـسم الله ثمّ يـختـــم *** بالحمد في شرب وأكل يطعم
يشـرب في ثلاثـة أنفـاســـا *** يمُص فهْو أهْنأُ إختـلاســــا
لم يتنفس في الإنا إذْ يشرب *** يُبينه عن فيه فهْو أطـيـــب
ولا تـأكل بشره ولا تكثر الأكل ففي الصّحيح: «المؤمن يأكل في مِعًى واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء» في "القسطلاني" ما نصه: ونقل القاضي عياض عن أهل التّشريح أنّ أمعاء الإنسان سبعة: المعدة ثمّ ثلاثة بعدها متّصلة بها البواب والصّائم والرّقيق، وهي كلّها رقاق، ثمّ ثلاثة غلاظ، الأعور، والقولون والمستقيم وطرفه الدّبر، ونظمها الشّيخ أبو الفضل عبد الرّحيم العراقي قال:
سبعـة أمعـاء لكـلّ آدمـيّ *** معدة بوابها مع صائم
ثمّ الرّقيق أعور قولون مع *** المستقيم مسلك المطاعم
وفي الصّحيح أيضا أنّ سيّدنا عبد الله بن عمر أكل معه رجل كثير الأكل فقال: لا تُدخِلوا عليّ مثل هذا، وفيه أنّ رجلا كان في الجاهلية يأكل أكلا كثيرا فأسلم فصار يأكل أكلا قليلا هـ، فالحديث يحذّر من كثرة الأكل لما فيه من أضرار بالبدن والدّين، هذا وقد تقدّم أنّ أصل كلّ داء البرده، وعليه فارفع يدك من الطّعام وأنت تشتهيه وقل الحمد لله الذي أطعمني وكفاني، فقد ورد أنّ من قال في أوّل الطّعام بسم الله وفي آخره الحمد لله لم يحاسب عليه، ولا تعب أي طعام قدّم إليك بل كن شكورا للذي أنعم عليك من غير حول منك ولا قوّة، فهذه سنّة نبيّك صلّى الله عليه وسلّم، ففي الصّحيح:لم يعب صلّى الله عليه وسلّم طعاما قطّ، إن اشتهاه أكله وإلّا تركه//، وفيه من شكر النّعمة فقد قيّدها بعقالها ومن لم يشكرها فقد تعرّض لزوالها، ومن شُكْرِهَا المحافظة عليها وصرف قوّتها في طاعة الله وفقنا الله جميعا لأداء الشّكر بمنّه آمين هـ، ثمّ نبه على مسائل تعين من نظر فيها بقلب سليم على أداء الشّكر،
فقال [المصنف]رحمه الله:
فربّما كسـرة خبز تشتـرى في يوم جوع بنضار أحمرا
وكم نفوس في البرايا معدمه ما عندها مما لديك سمسمه
وكـم مـريض زائـد البــــلاء أعـجـزه الـدّاء عن الغــذاء
اعتبر يا من له قلب سليم بما وقع لمن مضى، وانظر فيما وقع لبعض أبناء جنسك وتأمّل فيما لربّما يقع لك في المستقبل، فلربما يـأتي عليك يوم جوع تحتاج فيه لكسرة خبز ولا ينفعك فيه المال على فرض وجوده لديك، فليتك وجدت حينئذ كسرة خبز بدينار من ذهب، ومن هذا القبيل ما وقع لبعض الملوك أنّه باع جميع ما يملك بشربة ماء وخروجها، ومنه أيضا ما وقع لسيّدنا ذي القرنين حين حبسته ملكة الصّين في مطمورة لا يعرف اللّيل فيها من النّهار فبقى فيها ثلاثة أيّام لايأكل ولا يشرب، فلمّا كان اليوم الرّابع مدّت ملكة الصّين سماطا نحو مائة ذراع ووضعت فيه أواني الذّهب والفّضة والبلوار، وملأت أواني الذّهب باللّؤلؤ والزّبرجد، وأواني الفضّة بالدّر والياقوت الأحمر والأصفر، وأواني البلوار بالذّهب والفضّة وما في ذلك شيء يؤكل، إلاّ أنّه مال لا يعلم قدره إلاّ الله تعالى، وأمرت فوضع في أسفل السّماط صحن فيه رغيف من خبز البُّر وشربة ماء، وأمرت باخراج الإسكندر وأجلسته على رأس السّماط فنظر إليه فأبهره ذلك وأخذت تلك الجواهر ببصره ولم ير فيه شيئا للأكل ثمّ نظر فرأى في ادنى السّماط إناء فيه طعام فقام من مكانه ومشي إليه وجلس عنده وسمى وأكل فلمّا فرغ من أكله شرب من الماء قدر كفايته ثمّ حمد الله تعالى وقام وجلس مكانه أوّلا، فخرجت عليه فقالت له: يا سلطان بعد ثلاثة أيّام أما صدّ عنك هذا الذّهب والفّضة والجواهر سلطان الجوع، وقد أغناك عن هذا كلّه ما قيمته درهم واحد فمالك والتّعرض إلى أموال النّاس وأنت بهذا المثابة هـ، ويرحم الله ابن الوردي إذ قال: ملك كسرى تغني عنه كسرة*** وعن البحر اجتزاء بالوشل،
واذكر كم نفوسا عادمة لعشر ما لديك كما قال: ما عندها ممّا لديك سمسمة، أراد بالسّمسم القلّة، ففي المنجد السّمسم نبات يستخرج من حّب السّيرج الواحدة سمسمة الجلجلان هـ، واذكر كم مريضا زائد البلاء عافانا الله وإيّاك، لديه من النّعم أكثر ممّا لديك وأعجزه الدّاء عنها، إذا تأمّلت هذا بعين سالمة تجد نعما لاتحصى هـ، وفي "روح البيان" ما نصّه: روي أنّه شكى بعض الفقراء إلى واحد من السّلف فقره وأظهر شدّة اهتمامه به فقال: أيسرّك أنّك أعمى ولك عشرة آلاف درهم، فقال:لا، فقال: أيسرّك أنّك مقطوع اليدين والرّجلين ولك عون ألف درهم، فقال: لا، فقال: أيسرك أنّك مجنون ولك عشرة ألف، قال: لا، فقال: أما تستحي أنّك تشكو مولاك وعندك عروض بأربعين ألف، ودخل ابن السّماك على بعض الخلفاء وفي يديه كوز ماء وهو يشربه فقال عظني، فقال: لو لم
تعط هذه الشّربة إلاّ بتبديل جميع أموالك وإلاّ بقيت عطشانا، فهل كنت تعطيه؟ قال: نعم، فقال: لاتفرح بملك لا يساوي شربة ماء، وإنّ نعمة على العبد في شربة ماء عند العطش أعظم من ملك الأرض كلّها، بل كلّ نَفَسٍ لا يستوي بملك الأرض كلّها فلو أخذ لحظة حتّى انقطع الهواء مات، ولو حبس في بيت حمّام فيه هواء حار
أو في بئر فيه هواء ثقيل برطوبة الماء مات غمّا، ففي كل ذرّة من بدنه نعم لاتحصى انتهى ــ سنن أبي داود ج4 ص357 ـــ السنن الكبرى للبيهقي ج7 ص164 ــ السنن الكبرى للبيهقي ج7 ص162 ــ صحيح ابن حبان ج12 ص44 ــــ صحيح البخاري ج7 ص71 ــ صحيح البخاري ج4 ص190 ـــــ سنن أبي داود ج3 ص346
خيرالدين
admin
عدد المساهمات : 1263 نقاط : 2993 السٌّمعَة : 5 تاريخ التسجيل : 14/01/2014 العمر : 52 الموقع : http://islamchabeb2.ucoz.ae/